نجيبة بنت الطاهر الهمامي كاتبة قصة قصيرة وحاصلة على الأستاذية في الآداب والحضارة واللغة العربية من جامعة تونس الأولى. أصدرت مجموعة قصصيّة مشتركة بعنوان "يوم فرح"، ومجموعة قصصية تحت الطبع بعنوان «ليلة رأس ميدوزا»، كما لها مشاركات في عديد الملتقيات والمسابقات الخاصة بفن القصة القصيرة وكتابة السيناريو. حاصلة على عديد الجوائز الوطنية الأولى، عضو مشرف، عضو مشرف ومدير للورشة السردية «جماعة السرد»، نشرت بمجلات ثقافية عربية وتونسية. كان لنا معها هذا الحوار: تقول ناقدة نسي البال اسمها: «القصة كذبة بلقاء»، ما تعليقك؟ قول جميل، ولكن قول ماركيز: «نعيش لنروي» أجمل بكثير وأصدق. الراوي أو القاصّ يكذب على نفسه حتى يبقى في هذه الحياة ما بقيت، يعني من باب وهم الخلود في مواجهة الموت المحتم على الإنسان، هذا الإنسان العابر في هذا الكون يرمي، ومنذ وعى فكرة الفناء، إلى أن يترك أثرا في العالم بشتى الطرق والوسائل، وبذلك تصير القصة وسيلة من وسائل البقاء.. وبهذا المعنى يكون الإنسان هو الكذبة البلقاء في حين تكون القصة حقيقة، أو بالأحرى أكثر حقيقة منه باعتبارها قادرة على البقاء بعده. من تكون نجيبة؟ قاصة وحارسة للقصيدة في بيت الشعر التونسي؟ نجيبة من تكون؟ سؤال مربك هذا... نجيبة امرأة شغوفة جدا بالسرد قراءة وكتابة، تكتب القصة القصيرة بشغف كبير وحرص كبير موجع على الاختلاف والإجادة. أما أني حارسة للقصيدة في بيت الشعر التونسي... فربما يكون هذا صحيحا في بعض وجوهه باعتبار أنّي أعمل في بيت الشعر التونسي (موظفة في وزارة الثقافة) وهذا مكنني من أن أكون قارئة جيدة للشعر ومستمعة منذ سنوات بالإضافة إلى اختصاصي أو تكويني الأدبي في الجامعة، كما لي اطلاع كبير على ما يجري في الساحة الشعرية التونسية وعلى أغلب الإنتاجات الشعرية، بالإضافة إلى علاقات كبيرة وقديمة بكثير من الشعراء التونسيين. وأود أن أنوّه هنا بأنه لدينا ببيت الشعر التونسي التابع لوزارة الثقافة مكتبة شعرية مختصة تضمّ أغلب ما صدر من مجاميع شعرية تونسية في الألفية الماضية بالذات وإلى الآن، مع جانب نقدي خاص أيضا بالشعر وكذلك نواة مكتبة شعرية عربية، ونحرص على إقامة أنشطة ثقافية دورية (شعرية بالأساس) على مدى العام، مثل تنظيم ملتقيات شعرية وعقد ندوات وأماسي شعرية... الخ. من أيّ مِشتل أسطوري أتيت بهذه العتبة (ليلة رأس ميدوزا)؟ تتجلى "ميدوزا" في الكثير من أساطير الحضارات القديمة المختلفة كالفينيقية والإغريقية وغيرهما، باعتبار أن وجودها كان مرتبطا بوجود الرموز التي هي نفسها تتشابه في مختلف الحضارات والعصور، وتكاد لا تختلف ملامحها من أسطورة إلى أخرى. ولكن مشتلها الأسطوري الأبرز هو الحضارة الإغريقية. ميدوزا البنت الأجمل التي عاقبتها أثينا ب «ذنب» بوسيدن فحفِظَت جمال وجهها وحَوَّلت شعرها ثعابين وأسكنتها خلف العالم وصارت نظرتها تسحب روح من ينظر في عينيها وتترك جسده رخاما صلدا، وقد سلطت عليها هذه القسوة حتى لا يقربها أحد، كما تقول الأسطورة. وفي قصة "ليلة رأس ميدوزا" استعرت بعض ملامحها وبعض فعالية نظرتها الحادة في توليفة تمزج بين المتخيّل والأسطوري والواقع المعيش للشخصية الرئيسية في القصة. ما الذي تتوخينه من هذا التعدد اللغوي، وهذا النقض لصفاء اللغة الفصيحة؟ أعتقد أننا نتفق جميعا على أن المعنى متعدد وإذن فيجب على اللغة أن تكون متعددة. إنه لا يمكننا أن نقول عديد المعاني ولا أن نكتب، أو حتى نتحدث مجرد الحديث، في عديد المواضيع التي تنتمي حتما إلى فضاءات معرفية وثقافية واجتماعية ونفسية واقتصادية وحضارية... الخ مختلفة بنفس اللغة. ومن أجل ماذا؟ من أجل الحفاظ على صفاء اللغة الفصيحة الذي هو أمر نسبيّ أيضا. هذا لا يمكن ! أولا لأن اللغة متطورة بحسب حاجة الإنسان، واللغة التي لا تتطور ولا تؤدي حاجة مستعمِلِها في التعبير تموت. ثانيا لأن اللغة لغات منذ البدء، أي أن كل حقل دلالي له معجمه اللغوي بحسب السارد/ المتحدث فيه. من ناحية أخرى، أعتبر أن اللغة الفصيحة هي اللهجة الموحدة للهجات العربية، فكلنا يتكلم العربية ولكن بطريقته وبتطعيم من لغات أخرى سابقة ومعاصرة. فاللغة كائن حي يؤثر ويتأثر. والنص بما يحويه من شخصيات وأحداث يجب أن يكتب بلغة تقوله، بمعنى آخر إن النص هو الذي يفرض لغته. السرد والزمان أنت شغوفة بالسرد من زمان، فما قصة هذا الاختفاء حتي ولادة قصص ليلة رأس ميدوزا؟ صحيح أني شغوفة بالسرد من زمان، وكانت لي محاولات مخفية لم أجرؤ على نشرها ليس لضعف ولكن عن تردد. بصراحة عندما أقرأ نصوصا عظيمة لروائيين وقصاص كبار مثل عزيز نسين وغ.غ. ماركيز وفاراغاس يوسا وامبرتو ايكو ومثل البشير خريف وعلي الدوعاجي ومثل إدريس الشرايبي ومحمد شكري ومولود فرعون ومالك حداد وحنا مينة وعبدالرحمن منيف وغسان كنفاني... أقول بيني وبين نفسي يجب أن أكتب غير ما يكتبون وأفضل. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، عندما ألاحظ التجرّؤ الكبير على إدعاء الكتابة بل والإبداع أصلا والتسرّع في النشر من الكثير ممن «يحبون» أن يصيروا كتابا (روائيين أو شعراء)، وكأن الأمر بالرغبة الشخصية وكفى، مما ساعد على عزوف القارئ وترسيخ النفور من الأدب. هذا جعلني أتردّد وأتكاسل أكثر في أمر النشر رغم تحفيز العديد من الأصدقاء. ولكن ظهوري في الملتقيات الأدبية الوطنية وحصولي على عديد الجوائز الأولى فيها وتقديم نصوصي لبعض الأساتذة النقاد والأصدقاء العارفين غير المحابين ونشاطي في ورشات الكتابة السردية جعلني أقرر أخيرا أن أنشر، فكانت البداية مع مجلات أدبية محكمة ومحترمة مثل نزوى والحياة الثقافية ورؤى الثقافية وكذلك مواقع الكترونية أدبية، وأخيرا هي "ليلة رأس ميدوزا" تستقل بذاتها. قصة بصيغة المؤنث ماذا عن المشهد القصصي التونسي بصيغة المؤنث؟ إن المشهد القصصي التونسي إجمالا يعيش فترة جيدة جدا وقابل للتجدد والتطور في مستوى طرح المضامين والأساليب المعتمدة في السرد، فهو متنوع الأصوات والرؤى والأساليب ولا يختلف في هذا الكُتّاب الرجال عن الكتاب النساء. بل إن الصوت الأنثوي القصصي التونسي حاضر بقوّة وامتياز وتميّز وتمَايُز خصوصياته في المشهد السردي التونسي حيث لنا روائيات وكاتبات قصّة لهن حضورهن المميّز واللافت لا في تونس فقط بل وفي العالم العربي وأذكر هنا على سبيل الذكر لا الحصر آمال مختار وحفيظة قاربيبان وفاطمة بن محمود ومسعودة بوبكر وغيرهنّ كثيرات وكثيرات. إن الصوت الأنثوي السردي التونسي موجود منذ البدء ولكنه آخذ في الارتفاع والتألق والانتشار أكثر والإصرار على اقتحام كل مجالات القول السردي دون قيود تماما مثله مثل الصوت الذكوري. لم تكتبين القصة القصيرة ؟ وما الذي تحملينه لها؟ أنا أعشقها! نعم... هكذا، وببساطة. أنا أحبّ السرد عموما قراءة وكتابة وأحاوله بمختلف أنواعه. ولكن القصة القصيرة أمر آخر عندي، إنّها عشق صعب. أعشق الاختصار، أعشق التكثيف، أعشق العمق. أعشق قول المعنى مختصرا مكثفا عميقا، وبأجمل وأنسب لغة، هذا أجده في القصة. بمعنى آخر أنا لا أحبّ البهرج ولا أحبّ الزوائد اللغوية أو المعنوية كما لا أقبل الهزال في النص أيضا. يعني يمكن القول إني أحبّ النص ذا القوام المتناسق الرشيق إن صحّ القول، هذه هي القصّة القصيرة عندي. هذا هو تجلّي العشق الذي أحمله لها وأرجو أن تعشقني كما أعشقها فقط. عوالم رحبة في سرودك القصصية نفس طويل، ويغري بالرواية، ألا تفكرين في دخول عوالمها الرحبة، كي تتنفسي أكثر؟ أنا أعشق القصة نعم، ولكن قد أكتب الرواية فهذا أمر وارد جدا، وكما قلت سابقا أنا أحبّ السرد بأنواعه وقد أكتب في أكثر من نوع إن تطلب الأمر ذلك، وكان الموضوع الذي سأطرقه يتطلب في معالجته نوعا سرديا مخصوصا من مثل الرواية أو القصة أو المسرح أو السيناريو...