ينتهي الجزء الأول من حياتي في 11 ايلول 1973. في ذلك اليوم حدث انقلاب عسكري وحشي في شيلي. الرئيس سلفادور الليندي، الرئيس الاشتراكي الأول الذي ينتخب ديمقراطيا على الاطلاق، قد لقي حتفه. وفي غضون ساعات قليلة انتهى قرن من الديمقراطية في بلادي وحل محلها نظام إرهابي. وألقي القبض على الآلاف وتعرضوا للتعذيب، أو القتل. واختفى كثيرون ولم يعثر على جثثهم أبدا. هربت عائلة الليندي وأولئك الذين كانوا في الخارج لم يستطيعوا العودة. كنت آخر من غادر البلاد. فقد بقيت الى ان لم يعد بامكاني ان اتحمل اكثر. فهربت مع زوجي واطفالي في عام 1975. ذهبنا إلى فنزويلا، ذات الاراضي الخضراء وذات السخاء. وكان ذلك زمن الطفرة النفطية، عندما تدفق الذهب الأسود من التربة مثل نهر لا ينضب من الثروة. إلا أنني لم اوفق في رؤية الاماكن الساحرة في فنزويلا. كان الحنين إلى الماضي يقعدني عن الحركة، كانت عيناي ترنوان دائما نحو الجنوب، منتظرة نهاية الديكتاتورية. استغرق الأمر مني سنوات عديدة لأن استوعب صدمة المنفى. ورغم ذلك كنت محظوظة، لقد وجدت شيئا أنقذني من اليأس. لقد وجدت الأدب. وبصراحة، أعتقد أنني لم اكن لأصبح كاتبة لو لم أكن قد أجبرت على ترك كل شيء ورائي والبدء من جديد. وبدون حدوث الانقلاب العسكري ذاك كنت قد بقيت في شيلي. ولبقيت صحفية وربما سأكون سعيدة ايضا.، اعطاني الأدب في المنفى الوسيلة والصوت للتعبير عن ذاتي. وانقذ ذكرياتي من لعنة النسيان. ومكنني من خلق عالمي الخاص. رسائل روحية في الثامن من كانون الثاني، عام 1981.تغير قدري تماما، في ذلك اليوم تلقينا مكالمة هاتفية في كراكاس تقول إن جدي كان يحتضر. لم يكن بامكاني العودة إلى شيلي لوداعه، لذلك بدأت اكتب في ذلك المساء نوعا من الرسائل الروحية لهذا الرجل العجوز المحبوب. ولم افترض انه سيكون حيا ليقرأها، لكن هذا لم يمنعني. فكتبت الجملة الأولى في نشوة: «جاء الينا باراباس عن طريق البحر.» من كان باراباس، لماذا جاء عن طريق البحر؟ لم تكن عندي ادنى فكرة عن الموضوع، لكنني واصلت الكتابة مثل المجنونة حتى الفجر، الى ان تغلب علي الإرهاق فزحفت إلى سريري. تمتم زوجي متسائلا «ماذا كنت تفعلين؟» فأجبته «اعمال سحر»،. وبالفعل، كان ذلك سحرا. في مساء اليوم التالي وبعد العشاء، اغلقت الباب على نفسي في المطبخ وبدأت اكتب من جديد. كنت اكتب كل ليلة، متناسية حقيقة أن جدي قد مات. نما النص وكأنه كائن عملاق مع العديد من المخالب، وبحلول نهاية العام كان لي خمسمائة صفحة على طاولة المطبخ. ولم تعد تلك الصفحات تبدو كرسائل. انها روايتي الأولى، بيت الأرواح، قد ولدت. لقد وجدت الشيء الوحيد الذي أردت حقا أن افعله: كتابة القصص. كنت لا ازال غير قادرة على العودة إلى تشيلي. استمرت الدكتاتورية العسكرية سبعة عشر عاما. في 1983 نشرت رواية أخرى، عن الحب والظلال، تتناول الجريمة السياسية التي ارتكبت في شيلي، وبعد ذلك بعامين كتبت رواية ثالثة هي، إيفا لونا، وهو كتاب عزيز على قلبي لأنه يروي حياة حكواتي. تبع ذلك كتاب حكايات إيفا لونا، وهي مجموعة من ثلاثة وعشرين قصة قصيرة، كانت جميعا عن الحب، على الرغم من أن الحب في بعض الأحيان يكون ملتويا الى الحد الذي يكون من الصعب التعرف عليه. وفي ذلك الوقت كانت العلاقة مع زوجي قد تدهورت تماما. كنا في فنزويلا وليس في تشيلي، لذلك كان بوسعنا الحصول على الطلاق. كان طلاقا وديا، وهذا كل ما في الامر. الحب والرومانسية في هذا الجزء لا بد لي من ان اكون فظة واتحدث عن الرومانسية. تجبرني كتبي على السفر بشكل متكرر. وقوتي الروحية تتعثر من مكان إلى آخر، مثل رحالة يتجول. في عام1987، حين كنت لا ازال اعيش في فنزويلا، ذهبت في جولة لالقاء محاضرات أخذتني من أيسلندا الى بورتوريكو والعديد من الاماكن بينهما، حتى انتهى بي الأمر في شمال ولاية كاليفورنيا. ولم أكن أظن أن هناك سيتغير مصيري مرة أخرى. التقيت الرجل الذي كتبه القدر لي، كما كانت والدتي تقول. كان محاميا أميركيا يدعى وليام غوردون، الذي تم تقديمه لي بانه آخر شخص اعزب من عشاق سان فرانسيسكو. وقد قرأ روايتي الثانية واحبها. ومع ذلك، فحين رآني شعر بخيبة أمل تماما. فقد كان يحب الشقراوات طويلات القامة. بعد ان القيت خطابي، كنا نحن الاثنين مدعوين إلى حفل عشاء في مطعم إيطالي. كان هناك ضوء القمر وفرانك سيناترا يغني «غرباء في الليل»، وهذا النوع من الاشياء التي من شأنها أن تدمر رواية. ويلي كان جالسا أمامي، وكان يراقبني وتعابير وجهه حائرة. كان الجمع بين فرانك سيناترا والسباغيتي ذا تأثير منتظم علي: لقد وقعت في الحب، لذلك أخذت زمام المبادرة. طلبت منه أن يخبرني عن حياته. هذه الخدعة ناجحة دائما، ايتها السيدات! اطلبي من أي رجل أن يتحدث عن نفسه وتظاهري بالاصغاء اليه وانت مسترخية وتستمتعين بوجبتك، فسوف ينتهي به الامر الى أن يقتنع انك فتاة ذكية ومثيرة. في هذه الحالة.. لم يكن علي ان اتظاهر بشيء. سرعان ما أدركت أنني اكتشفت بالصدفة واحدة من تلك الجواهر النادرة التي كان رواة القصص يبحثون عنها دائما. كانت حياة ذلك الرجل رواية! وهكذا فعلت ما كانت أية كاتبة عادية في أمريكا اللاتينية ستفعله: تزوجت الرجل لكي احصل على القصة. حسنا، لم أتزوجه على الفور. تطلب الأمر بعض المناورات المناسبة: أولا، دعاني إلى منزله. كنت أتوقع أمسية رومانسية تتميز بإطلالة من الشقة المنفصلة في الطابق العلوي على جسر البوابة الذهبية، مع موسيقى الجاز الهادئة، وسمك السلمون المدخن. لم احصل على أي شيء من هذا القبيل. قام الكلب بالكثير من الحماقة في المرآب حين كان عليه أن يتراجع كي أتمكن من اخراج السيارة. ابنه الأصغر، وهو شقي يبلغ من العمر عشر سنوات، استقبلنا بالرصاص المطاطي. الكلب، كان كثير الحركة مثل الطفل، وقد وضع قدميه الموحلتين على كتفي. كان هناك كذلك غيره من الحيوانات الأليفة: زوجان من الفئران المهووسة في قفص قذر تبصق على ذيول بعضها البعض وأسماك نافقة تطفو على سطح المياه القذرة لحوض السمك. ولكني لم اتراجع. أحببت هذا الرجل وكنت أريد أن أسمع بقية قصته. في اليوم التالي، عندما أخذني إلى المطار، وسألته بأدب ان كان لدينا أي نوع من الالتزام. التفت الي شاحبا ويداه ترتجفان بقوة حتى انه اضطر الى التوقف.. «ما الذي تتحدثين عنه، نحن التقينا لتونا!» كان يتمتم، برعب. واضاف «انا في الخامسة والأربعين وليس لدي وقت لأضيعه» فقلت له «أريد أن أعرف ما إذا كان هذا الشيء جديا أم لا».. فسألني وقد ارتبك «اي شيء؟». في ذلك اليوم أخذت الطائرة، ولكن بعد أسبوع عدت دون دعوة. انتقلت إلى منزله، وبعد ستة أشهر كان عليه أن يتزوجني. نعم، لقد كتبت حياة ويلي بعد كل شيء. وسميت الكتاب الخطة اللانهائية، وكان قصة رجل بقلب كبير. عشنا معا لسنوات عديدة، ونجا حبنا من تقلبات كثيرة، من نجاحات كبيرة، وخسائر كبيرة. باولا في شهر كانون الاول من عام 1991، دخلت ابنتي باولا، وكانت مصابة بمرض وراثي نادر يدعى البورفيريا، في غيبوبة حيث كانت في إسبانيا. وأدى الإهمال في وحدة العناية المركزة الى تلف شديد في الدماغ وانتهى بها الأمر الى فقدانها الوعي. عدنا بها الى منزلنا في كاليفورنيا لكي نرعاها حتى ماتت بين ذراعي، بعد عام من ذلك التاريخ. كان عذاب باولا الطويل محنة لعائلتنا. سارت الأمور من سيئ إلى أسوأ، فبعد أشهر قليلة من وفاة باولا، توفيت جنيفر ابنة ويلي (زوجها الثاني) اثر تعاطيها جرعة زائدة من المخدرات. يقولون إنه لا يوجد ألم شديد يعادل ألم فقدان طفلك. ولكن الحزن المشترك لم يجعلني انا وويلي قريبين من بعض. نحن شعب قوي وعنيد. ولكنني أعتقد أننا لا يمكننا أن نعترف أن قلوبنا مكسورة. استغرق الأمر وقتا طويلا والكثير من العلاج بالنسبة لنا حتى نكون قادرين على ان يحتضن احدنا الآخر والبكاء معا. بعد وفاة باولا، كانت الكتابة هي الشيء الوحيد الذي يبقيني عاقلة نسبيا. كان الحزن رحلة طويلة إلى العالم الآخر، كان مثل السير بمفردك في نفق مظلم. وكانت الكتابة هي وسيلتي للسير في ذلك النفق. كنت في كل صباح اسحب نفسي من السرير واذهب إلى مكتبي. وأوقد شمعة أمام صورة باولا، واستدير نحو جهاز الكمبيوتر، وابدأ في البكاء. وكان الألم لا يطاق الى حد كبير، أحدق في الشاشة لساعات، غير قادرة على كتابة كلمة واحدة. وفي احيان أخرى كانت الجمل تتدفق، كما لو كانت باولا تمليها بنفسها، بعد مرور عام على ذلك اصبحت في نهاية النفق. وتمكنت من ان أرى الضوء واكتشفت، باندهاش، أنني اكتب كتابا آخر، وأنني لم اعد اصلي بعد الآن من اجل ان اموت. كنت أريد أن أعيش. كان كتابي (باولا) هو مذكراتي عن القصة المأساوية للوفاة المفاجئة وقبل الأوان لامرأة شابة، ومع ذلك، فهو اساسا احتفال بالحياة. تتشابك قصتان في صفحات ذلك الكتاب: قصة ابنتي باولا وقصة قدري المغامر. أعطتني رحلة عذابها الطويل فرصة فريدة لاستعراض حياتي الماضية. توقفت حياتي تماما لمدة عام كامل. لم يكن هناك شيء نقوم به، فقط ننتظر ونتذكر. وبشكل بطيء، تعلمت أن ارى أنماط وجودي واسأل نفسي الأسئلة الجوهرية: ما الذي يوجد في الجانب الآخر من الحياة؟ هل هو الليل، والصمت، والعزلة فقط؟ وما الذي يتبقى حين لا يكون هناك المزيد من الرغبات والذكريات، أو الأمل؟