خلال شهر محرم الماضي، صدر عن مركز الملك عبدالله بن عبدالعزيز الدولي لخدمة اللغة العربية، العدد الأول من مجلة (التخطيط والسياسة اللغوية)، وهي مجلة علمية محكمة تعنى بقضايا اللغة، وغايتها، كما ذكر في المقدمة، سد ما هو موجود من فراغ علمي في مجالي التخطيط والسياسة اللغوية. ولعل مصطلحي التخطيط والسياسة اللغوية يظهران مبهمين لغير المختصين في الدراسات اللغوية. مصطلح السياسة اللغوية يراد به اتخاذ الدولة -أو غيرها من جهات السلطة- قرارات خاصة بشأن اللغة تحقق الدعم والتعزيز لها. أما التخطيط اللغوي فيشار به إلى رسم الخطط اللازمة لتنفيذ ما اتخذته السياسة اللغوية من قرارات. وبهذا الخصوص نجد أن البلدان العربية، غير معنية كثيرا بوضع سياسة لغوية أو تخطيط لغوي يدعم مكانة اللغة العربية ويعزز وجودها، فنحن إلى الآن لا نجد أي خطط بارزة من أجل تنمية اللغة العربية لتكون لغة للعلم والمعرفة والتقنية، بل أسوأ من ذلك هناك إهمال كبير وتجاهل يكاد يكون تاما لقضايا اللغة التي تهدد مكانتها واستمرار نموها، كقضية انحدار اللغة العربية على ألسنة أبنائها، وتراجعها التدريجي أمام اكتساح اللغة الإنجليزية لمواقعها في المؤسسات التعليمية، وفي الوسائل الإعلامية، وفي أسماء المطاعم والمحلات والمجمعات التجارية، وعلى اللافتات وفي الإعلانات، إلا أننا برغم ذلك، لا توجد لدينا سياسة عربية حاسمة صارمة موجهة لردع تلك الاعتداءات وانتشال اللغة العربية من هاوية التغييب المنحدرة إليها. وفي هذه المجلة، استوقفتني دراسة منشورة فيها عن التخطيط اللغوي للغة العبرية في فلسطين، للباحث عبدالعظيم أحمد عبدالعظيم. وهي دراسة تبين الفارق العظيم بين تعاملنا مع لغتنا العربية وما تفعله إسرائيل من أجل دعم وتعزيز اللغة العبرية. دولة إسرائيل، تشكلت من جمع شتات اليهود المبعثر في أنحاء الأرض، وكان بإمكانها أن تجعل اللغة الإنجليزية التي يتحدث بها كثير من يهود العالم، لغة رسمية لها، فاللغة الإنجليزية هي لغة العلم والحضارة وهي الأكثر انتشارا في العالم، لكن لكون إسرائيل تدرك ما للغة القومية من أثر جوهري في تأكيد الهوية، رفضت أن تستخدم أية لغة لا تمثل اليهود ولا تؤكد قوميتهم. وأصرت أن تحيي اللغة العبرية لتكون لغتها الرسمية بعد أن ظلت ميتة ألفي عام. يوم غد موعدنا مع عرض للدراسة المذكورة لنرى كيف استطاعت إسرائيل بفضل سياستها اللغوية الحاسمة أن تحيي لغة ميتة لأكثر من ألفي عام.