عندما يحضر الشعر تصمت الكلمات، وعندما يحضر الشاعر يتوارى النثر والناثر، هذه رحلة في حضرة ((الشعر )) النابت من الأرض، والمزهر في القلوب، المتألق بالمعاني إبداعًا، المخضّب بورد الجمال أفراحًا، وجمر المعاناة جراحًا. هذه رحلة محلقِّة مع الإبداع في فضاءات شاعر مبدع ومضيء، رحلة ممتعة كوجه حسناء، متعبة كليل المعاناة، رحلة مع الأمير الشاعر الفارس ((خالد الفيصل)) الذي جعل ((الكلمة الشعبية الجميلة)) بوحًا نستمع إليه، ونغما نستمتع به وجعل الحرف ((المحلّى السعودي)) جناحًا أخضر يسافر في بيادر ذاكرتنا.. وضفاف ذكرياتنا. في شعره عذوبة وعذاب..! إن تهادى شعره نشيدًا أبهج، وإن أتى شعره نشيجًا أبكى، شعره يحرّضك على محبة هذا الشعر الجميل، وقصائده – تأخذك – إلى فضاءات بهية وأخاذة، فيها رحابة الصحراء.. وحَوَر العيون، فيها آهات العاشق..وكبرياء الفارس، فيها فلسفة المتأمل.. وشجن الإنسان، فيها عبق الزنابق.. وفيها أحيانًا رعْد البنادق..! إنها تورق بين وديان نفسك ألقًا، وتتألق في فضاءات نفسك طيبًا وعبقًا. في ((غزله)) عفة العاشق.. وجمال الصورة.. وجدة المفردة ، وفي رثائه صدق العاطفة.. ونبض الشجن.. ولوعة الفقد، وفي قصائده التأملية عمق النظرة، وحيرة الإنسان في عوالم الحياة ، وبين سراديب الموت..! أنا لن أقدم هنا دراسة عن بوح الأمير الشاعر ((خالد الفيصل))، ولا عن شعره، ولكني فقط أحاول أن أقدم إضاءة بين يدي شعره. خذوا نماذج فقط، أو بالأحرى أبياتًا فقط، من تلك المدارات الشعرية التي أشرت إليها، وسوف تتفقون معي على إبداع هذا الشاعر في كل غرض يتطرق إليه. من ((الغزل )) اقرأوا هذه الأبيات عن العيون التي تولَّع بها.. وولَّعنا فيها: ((أحسِب إن الرمش لا سلْهم حنون أثِر رمش العين ما ياوي لاحد يوم روّح لي نظر عينه بهون فزِّ له قلبي وصّفق وارتعد لفني مثل السّحايب والمزون في عيوني برق وبقلبي رعد نقّض جروحي وجدَّدْ بي طعون قلت: يكفي ، قالت عيونه بَعَد وانعطف هاك الشَّعر فوق المتون وانثنى عوده وقفّى وابتعد)) وفي ((الرثاء)) اقرأوا هذه الأبيات من قصيدته الشهيرة في رثاء والده العظيم الملك فيصل رحمه الله: ((لا هِنت يا راس الرّجاجيل لا هنت لا هام راس في ثرى العود مدفون والله ما حطّك بالقبر لكن آمنت باللي جعل دفن المسلمين مسنون صِنْت العهد يا وافيْ العهد ما خِنت عّلّمتهم وشلون الأشراف يوفون لوَّنت تاج الملك ما قد تلَّونت ما غرّتك دنياك ما صِرت مفتون تلفتَّت روس المخاليق وين أنت وين العظيم وعوّد الشوف مطعون لو شفت حال الناس عقبك تبيّنت مقدار حب الناس للي يودّون مما بقلبي قلت يا بوي لا هنت والا أنت فوق القول مهما يقولون)) وفي ((التأمل)) تأملوا في هذه الأبيات من قصيدة ((قالت من أنت)): ((قالت من أنت ؟ وقلت مجموعة إنسان من كل ضدّ وضد تلقين فيني فيني نهار وليل وأفراح وأحزان أضحك ودمعي حاير وسط عيني وفيني بداية وقت ونهاية أزمان أشتاق باكر واعطي أمسي حنيني أسقي قلوب الناس عشقٍ وظميان واهدي حيارى الدرب واحتار فيني )) إلى آخر هذه القصيدة التي كتبت عنها عندما تم نشرها لأول مرة بصحيفة الجزيرة، وكتبت لها تقديمًا بين يديها قلت له فيه: هذا الشاعر وهذه القصيدة الرحيق والحريق.. الشّهد والصاب.. الجرح والوردة إن الشاعر أو الإنسان في هذه القصيدة قَدَرُه أن يمنح الرحيق وإن تلظّى بأوار الحريق وقدْرته أن يعطي الشهد وإن تعذّب بلظى الصاب وإن كفه وقلبه يقدمان الورود - وهما لا يستطيعان - غير ذلك وإن كان ثمنُ ذلك المزيد من الجراح . لكن مع كل ذلك..! لابد أن ينالَ هذا الإنسانُ الذي يجعل البسمة تزهر على شفاه الآخرين بقيةَ عَبَق يجعله يحس بالسعادة من خلال رؤيتها على وجوه الناس فالذي ينثر العطر لا بد أن يناله قطرات منه..!)). وهناك نمط آخر من تأملات هذا الشاعر الإنسان. وإني أحسب أن مثل هذا التأمل نمط جديد فعلاً في فضاءات الشاعر العربي وعوالمه. لقد جرت العادة أن يكون تأمل الإنسان للأشياء والكائنات والوجود من حوله في هذه الحياة. لكن هذا الشاعر ينقلنا في تأملاته إلى عالم آخر إلى عالم الرحيل والموت إلى لحظة صعبة وعصيبة تلك هي لحظة نزع الروح من جسده تأملوا واقرأوا معي هذه اللوحة البالغة الشجن، البليغة التعبير وصدْقُها يغني عن أي صداق يُقدم بين يديها: ((وداعٍ يا نفس قدرها دعاها تنازعتْ والموت ما عنه مردود تشبَّثت بحبال زُخرف حياها تبي نهارٍ زود واليوم موعود تِسلّلت مثل الهوا من خفاها عَجْزت تِقَضَّب في ذرى يابس العود تبخّرتْ روحي من حياض ماها يِتلّها نزّاع الأرواح بركود بالهون يا نزّاع روحي تراها باقي عذاب أيام بيضٍ على سود ** ورقة عمل قدمت البارحة في ندوة عن خالد الفيصل في معرض الشارقة الدولي للكتاب.