الفواجع في هذه الحياة كثيرة، تأتي في النفس والمال والولد وفي الصديق والرفيق، وفي كل عزيز وكل غال ونفيس، ولهذا يصدق على المصائب كلها مسمى فواجع فهي تفجع من حلت بهم لأنها مصدر حزن وألم، وتأتي آلامها وأحزانها مرافقة لحدوثها، تؤجج النفس بالتفاعل والانفعال والإحساس، ويتفاعل الوسط المحيط بما حصل وهذا فيه المزيد من التأثر سلباً أوإيجاباً أيضاً، ويجعل الله مع هذا كله التماسك والصبر وينزل السكينة على القلوب المفجوعة المكلومة، وما البوح والتعبير عن المشاعر بقصائد الرثاء إلا من أجل التهدئة والتخفيف من هذه الأحزان والآلام، لكن ليس بالضرورة تضمين قصيدة الرثاء حزناً ونوحاً وتوجعاً، وليست تلك ملازمة لها، لكنها مناسبة لها فقط. وقد يرثي الشاعر أشياء كثيرة منها ما هو فواجع وأحزان ذات صلة به، أو يرثي أخرى تأثر بمشاهدته لها وفي نفسه ذكرى متمكنة مماثلة تحييها وتنبهها (مثيرة) أو رآها على صورة لم يكن يتوقعها، كما هي الحال لدى البعض يرثي أطلال المساكن والدور وأما خصائص الرثاء فأولها بث الحزن والشكوى لنفسه ولمن يسمعه، ومنها أيضا ثناء الشاعر ومدحه لفقيد أو فائت أو مفارق لهذه الحياة، ويأتي المدح كنوع من أنواع التبرير وتقديم مسببات الرثاء والحزن ودواعيه. وأما تأثير قصيدة الرثاء في المتلقي فيتطلب مصداقية تفاعل شاعرها وأن تكون نابعة من قريحة شاعرة بالموقف متأثرة بالفعل لا متصنعة، فمن مشاعر الحزن تتولد حرارة التعبير بالنثر والشعر وتتحرك القرائح وتستفز، فينتج من ذلك قصائد الرثاء التي تخاطب المشاعر والأحاسيس وتكون بوحاً بين الصمت والصوت لمن يتلقاها، يعبر بها الشعراء عن جراحهم وأحزانهم فتكون مضامينها مبكية، خاصة عندما يكون الحدث مؤثراً في نفس الشاعر وقلبه. وأما من حيث أثر القصائد في المتلقي وإيصال المشاعر والتفاعل، فقد جاءت من هذه الناحية متنوعة، فبعضها يكون مشحوناً بالعاطفة الجياشة والروح المتفاعلة بشكل كبير ليس لبلاغة قائلها فقط بل لمصداقيته في رثائه وهذه يلمسها المتلقي وتصله بنفس الدرجة أو أقوى، ربما لأن الشاعر يعيش بالفعل الحدث نفسه ومتأثر به، أكثر من كونه مراقباً لما حوله ينقل إحساس الآخرين، وأما بعضها الآخر فإنها أقرب ما يكون إلى النظم الخالي من الأثر الذي تستجيب له مشاعر المتلقي، وفي هذه الحالة ربما لم يكن الشاعر متفاعلاً بالدرجة الكافية ولم يكن للحدث أثره الكافي والقوي في نفسه، رغم أنه يقول قصيدة رثاء إلا أنها في بعض الأحيان جامدة العين، ودمعتها لا تسيل كما أن الوصف الحكائي ولو كان له رشاً من الدموع الصناعية إلا أنه غير مؤثر، وقد قالوا في الأمثال (ليست الثكلى كالمستأجرة) أي ليست الحقيقة كالتصنع. وبالتالي فالحدث المحزن للبعض قد لا يكون محزناً ومؤلماً للشاعر نفسه، وإنما يقدم القصيدة مجاملة أو مشاركة أو حضوراً فقط وهذا النتاج الشعري عادة يفقد أهم عنصر من عناصر قصيدة الرثاء وهو التفاعل الداخلي والروح النابضة، كما أن القريحة المستدعاة إجباراً لتأدية دور هامشي ليست كالحاضرة ثائراً ومتفاعلة قد فرضت نفسها على الشاعر. ولهذا ليس كل شاعر قادر على إنتاج قصيدة حزينة في الرثاء لأن القصائد لا تأتي على نسق وأسلوب واحد وإن كان الغرض واحداً، وذلك لاختلاف الزاوية التي ينظر عبرها كل شاعر فتكون قصيدة كل واحد مختلفة عن غيره لهذا لا تتشابه مضامينها ولا تأثيرها في المتلقي. وفيما يلي مرثية ذكرها الرواة، وأورد القصيدة شاعرها في كتابه، وفي ظني أن أصدق الرثاء وأكثر حرارة ومصداقية هو رثاء الوالد ولده، وفي كل رثاء صادق أيضا يتضح من خلال ما يتصف به من عمق في حزن قائله. القصيدة التي نتناول أبياتها هنا هي للشاعر: عبدالله بن محمد السياري في ولده خالد -رحمه الله-، ومثار القصيدة رؤية ابنته سارة طفلة صغيرة، أي حفيدة الشاعر عبدالله، التي مات والدها عنها فقد ولدت بعد وفاة أبيها بأربعة أشهر يقول في رثائه لولده وهو يرى الطفلة سارة تمشي وتتعثر وتلتفت هنا وهناك، تتنقل بينهم: متى مالعباير ضيقت صدري المشحون ونوت عيني الحرّى تنثر عبايرها ركبت المصفّح مبعد الهقوه المامون وتنزحت بعيون على الصبر عاسرها تنحرتّ لي رجم على الوادي المصيون تعلّيت به والعين جابت ذخايرها على فقد (خالد) ونتي ونة المطعون تكظ العيون الدمع والحزن حاشرها انا اظني احيا ما بقى لي وانا محزون من الصدمة اللي رب الارباب خابرها اليا شفت (سارة) تدّرج بينهم بالهون تعثر وتنهض واقشر الحظ عاثرها تنادي :بابا مادرت ذخرها مدفون تعلق بمن شافت وتنخى عشايرها تنحيت عنهم واسلبت عيني المخزون اطمّن وألدّ بناظري لا يناظرها وإليا خف حزني صحت ياربعنا تكفون على الكبد حطوّها تطفي سعايرها هلا مرحبا ياكل عمري ونون النون ظنا من خياله شايفه في نواظرها انا اشم ريحه فيك لو قيل لي مجنون عيون الخلي لو نامت الليل عاذرها وهذا بعض من قصيدة رثاء للشاعر شبيب الرشيدي في ولده أحمد -رحمه الله، يبدأها بمفاجأة الخبر الحزين ويذكر أيضا الصفات الطيبة لولده ويستحضر في القصيدة الجانب الديني معينا على الصبر، يقول فيها: ياالله تعاوني على الصبر ياالله حاولت ابصبر والعزا ما قويته خشعت وامر العبد بيدين مولاه جريت لي ونه وصحت ونعيته رفعت راسي لين مانيب ويّاه بعيد عن دار الحبيب وابكيته مرحوم يااللي دايم الطيب مبداه في كل لازم لي بغيته لقيته احمد مطيع لوالده يطلب ارضاه ما اذكر نهارٍ منه ضقت وشكيته احمد فلا احدٍ فيّ سوّى سواياه والله أموت وموقفه ما نسيته ماقدر الله كان والحمد لله واللي يجي من عند ربي رضيته والعبد له يومٍ محدد بدنياه والله جعل فيها حياته وميته وياالله تغفر له وتدمح خطاياه من كل عثره في طريقه وقيته ونختم ببعض قصيدة رثاء تميزت بالتماسك وقوة التأثير والاقناع وفيها جزالة اللفظ وتقديم خصال الفخر على مفردات الحزن بعبارات فخمة مع إبراز الناحية الدينية في المضامين، وهي للأمير خالد الفيصل في رثاء والده الملك فيصل رحمه الله،حيث يقول: لا هنت يا راس الرجاجيل لا هنت لا هان رأس في ثرى العود مدفون والله ماحطك بالقبر لكن امنت باللي جعل دفن المسلمين مسنون منزلك ياعز الشرف لو تمكنت فوق النجوم اللي تعلت على الكون سكنت دار المجد ياشيخ وأسكنت شعبك معك في منزل العز ممنون صنت العهد يا وافي العهد ماخنت علمتهم وشلون الاشراف يوفون كم ظالم عاداك واعفيت واحسنت واخلفت ظن جموع ناس يظنون شلت الامانة حافظ ماتهاونت شفنا بك رجال على النفس يقوون يااللي طلبه الملك بالحب زينت عرشك بتاج قلوب شعب يحبون لونت تاج الملك ما قد تلونت ما غرتك دنياك ماصرت مفتون بالزهد والمعروف والصبر كونت منهاج فيصل منهج اللي يعدلون تلفتت روس المخاليق وين انت وين العظيم وعود الشوف مطعون كم خافق وقف عقب ما تكفنت وكم ناظر ذوب سواديه محزون لو شفت حال الناس عقبك تبينت مقدار حب الناس للي يودون مما بقلبي قلت يابوي لاهنت والا انت فوق القول مهما يقولون إن تعبير أي شاعر في رثائه بالبكاء يعطي الإشارة إلى عاطفته وإلى داخله ومشاعره مما لا نستطيع إدراكه أو رؤيته إلا من خلال مضامينه، فبقدر ما يوظفها في المكان المناسب تصل تلك الأحاسيس وبالقدر الذي تفاعلت فيه مشاعره هو، وأي تعبير بالدموع وصفا لها فإنما يشير إلى استجابة عينه وتفاعلها ويمكننا رؤية ذلك. وأما مفردات الرثاء والكثير من تراكيبه ومضامينه، فبقيت كما هي لم يتغير فيها شيء كثير سوى ما يتميز به الشاعر من توظيفها في المكان الصحيح والوقت، عكس الأغراض الأخرى، ذلك لأن المواقف المؤلمة والمعاناة والتعبير عنها بقي كما هو حتى مع طول الزمن ومضي أجيال بعد أجيال فالمشترك النفسي والمشاعر متشابه يغذي التعبير عنه، إلا أن المتغير خص عملية ضبط الانفعال وليس وصفه، والمتغيرات في ضبط الانفعال عديدة وأهمها ثقافة المجتمع ومنه الشاعر وتدينه وما يحمل من فكرة حول الحزن والمواقف المؤلمة، فمن خلال تلك الثقافة يتضح مدى ضبطه لتأثير أحزانه وتضميد جراحه.