تميز مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية باهتمامه بدعم الثقافة العربية والإسلامية، وذلك من خلال إسهاماته القيمة في تحقيق ونشر بعض ما احتواه تراثنا الفكري من مؤلفات ذات قيمة علمية، ولولا ذاك، لكان من الممكن أن تبقى تلك المؤلفات مطمورة لا يعرف عنها كثير من شباب هذه الأمة، خاصة في أيامنا هذه بعد أن تيسر جدا الاتصال بالثقافات الأخرى، وطغت على الأجيال الجديدة المعرفة بالثقافة الغربية أكثر من المعرفة بالثقافة العربية في صور شتى ومن مصادر عدة، سواء عبر التعليم في المدارس الأجنبية، أو عبر الإنترنت أو الفضائيات أو غيرها من سبل الاتصال، فصار النشء في أيامنا هذه يعرفون عن رموز الغرب وتراثه وتاريخه ولغته، أكثر مما يعرفون عن تاريخهم وعروبتهم وتراثهم ولغتهم. من الكتب التراثية التي أشرف مركز الملك فيصل على تحقيقها ونشرها، كتاب (أدب الطبيب) لإسحاق بن علي الرهاوي، من أطباء القرن الثالث الهجري، والكتاب من تحقيق الدكتور مريزن سعيد مريزن عسيري، ويعد الكتاب من أوائل الكتب العربية المصنفة في هذا المجال، وحسب ما يذكره المحقق في تعريفه بالكتاب ومؤلفه، فإن كتاب الرهاوي لسبقه وأهمية الميدان الذي يبحث فيه، صار فيما بعد مرجعا لمعظم من ألف في ذلك المجال. يقسم المؤلف كتابه إلى عشرين بابا كل باب يتفرد بموضوع من المواضيع المتعلقة بمهنة الطب، شملت رؤيته فيما ينبغي أن يكون عليه الطبيب من الصفات في مظهره وأخلاقه، وطبيعة العلاقة بينه وبين مرضاه، وواجبه في مراقبة الأدوية التي يصفها للمريض للتأكد من عدم وقوع الغش فيها، كما شملت رؤيته لشرف مهنة الطب واستحقاق الطبيب الاحترام والتقدير، والمشكلات التي تواجه الطبيب في مهنته، وغيرها من المواضيع. من المشكلات التي يراها الرهاوي تواجه الأطباء في مهنتهم، جهل المرضى والقائمين على رعايتهم، فالجهال لا يستطيعون فهم ما يقوله الطبيب من إرشادات وتوصيات، وقد يقع منهم التصحيف في أسماء الأدوية ومقاديرها وطريقة إعدادها ومرات استخدامها، أو غير ذلك، فيتضرر المريض، ويلام الطبيب. ومنها أيضا، أن الناس يستهينون بحقوق الأطباء في الإكرام والمكافأة مما يجعل بعض الأطباء يبحثون لهم مع الطب معاشا آخر من تجارة أو دكان، فيؤثر ذلك على عملهم، بعد أن يكونوا تركوا النظر في القراءة والخدمة والاستزادة من المعرفة، ومالوا إلى الملق والتغلغل في أنواع الحيل للحصول على المال. والرهاوي في حديثه هذا يبدو كما لو أنه يصف حال الأطباء في عصرنا من منسوبي وزارة الصحة، الذين يشتكون من تدني ما يصرف لهم من مرتبات ومكافآت مقارنة بأمثالهم في أماكن أخرى. أما ثالث المشكلات الطبية التي يذكرها الرهاوي فتتمثل في اندساس دخلاء على مهنة الطب من الدجالين والمحتالين، واندساسهم ليس يهدد سلامة المرضى فحسب، وإنما أيضا يشوه سمعة الأطباء وعلم الطب ذاته. لذلك يدعو الرهاوي إلى أن يكون للأطباء امتحان وإجازة تثبت كفاءة الطبيب وجدارته لممارسة المهنة. ولعل الرهاوي بدعوته هذه يكون أول من طالب في تاريخنا الإسلامي، بامتحان الأطباء وحصولهم على رخصة لممارسة المهنة.