توحي معظم المصادر التراثية المتوفرة لنا في الطب الجراحي عند العرب على تغلب الطابع النظري فيها أكثره يظهر عليها الجانب التطبيقي. ويبرز هذا الجانب بقدر ما في بعض مؤلفات أبي بكر الرازي، وعلي بن العباس الأهوازي، وأبي القاسم الزهراوي وابن القف الكركي، وفي بعض مؤلفات أطباء العيون. وهناك ثمة كتب أخرى في الطب الجراحي لأطباء عرب آخرين إلا أن أكثرها فقدت، وما وصلنا منها لا يؤشر بوضوح على ممارسة المؤلف للعمليات الجراحية التي ضمنها كتابه. وإذا استثنينا عمليتي الفصد والكي التي تُروى أحداثهما بكثرة فليس في التراثيات العربية إلا روايتان أو ثلاث عن عمليات أكثر تعقيدا استعمل فيها الشق والقطع والعمل بأعماق الجروح، وفي علمنا أن بعض الأطباء كابن عكاشة الكرخي، وأبي نصر بن المسيحي ، وأبو الحكم عمرو بن أحمد الكرماني قد مارسوا العمليات الجراحية، إلا أنهم لم يكتبوا في موضوعها لنعرف من ذلك مدى دراستهم لهذا الاختصاص. كما لم يعثر الآثاريون على بقايا الأدوات الجراحية التي استعملها الجراحون العرب لنستنتج منها مستوى العمليات التي مارسوها. ويزداد جهلنا في الجراحة النسوية بصفة خاصة لعدم عثورنا على نصوص تراثية تثبت بشكل قاطع وجود من مارس هذا الاختصاص بقدر ما كتب فيه. ولا ريب في أن المرأة بحكم أنوثتها، والقيود العرفية والشرعية التي تخضع لها المسلمة، قد أقامت صعوبة في دارسة الطب النسوي بتفاصيل ما تتطلبه المهنة في الفحص والمعالجة، وكان مثل هذا التزمت أو ما يقرب منه مألوفا حتى لدى السيدات الإسبانيات اللاتي دخلن الإسلام بعد زواجهن من الفاتحين العرب . ولقد نصح النبي (!) باستشارة الأطباء، ولم يفرق بين الرجل والمرأة في هذه النصيحة. إلا أن المرأة المصونة وحرائر العوائل والأميرات بقين مع ذلك يتمسكن بالخدر والستر، ولم يخضعن للفحوص الطبية إلا لأيدي القابلات. ولا غرابة أن يستسلم بعض هذه الفئة من النساء ليد المولد أو الجراح حين تخطر حالتهن المرضية وهن بين حانقات وراضيات على تعرض الطبيب الرجل على محرمات أجسادهن. أما الطبيبات فليمس لهن ذكر في التراثيات العربية، أوكن يعملن في الطب على مستوى القبالة أو أرفع منها بقليل. ونشير هنا إلى أن الطب النسوي يشمل حالات الولادة بنوعيها الطبيعية والعسرة، كما يشمل الأمراض الجراحية التي ينفرد بها جسم المرأة دون الرجل. وفي كتب التراث العربي مادة غزيرة في الأمراض النسوية بنوعيها المذكورين. وفي هذا البحث سنسوق ما توصلنا إلى معرفته عن دراسة الأطباء العرب في الجراحة النسوية والولادية سواء ما فعلوه بأيديهم أو بواسطة القوابل. وبسبب العلاقة الوثيقة بين الطب العربي والطب اليوناني، ووفرة المعلومات في الجراحة النسائية في المؤلفات اليونانية، فلا مفر لنا إلا أن نرجع إلى مؤلفات أولئك الأقوام للوقوف على ما له علاقة بنصوص التراثيات العربية وشروحها. وبأي حال فإن كتب أ بى قراط، وسورانس، وروفس، وجالينوس واتيوس الآمدي، وبولس الأجيني التي ترجمت في القرن الثالث الهجري/ التاسع الميلادي إلى العربية أو السريانية، كانت أولى ما حمل إلى العرب من علوم اليونان في الطب، وآخرها أيضا. وبقيت تلك الكتب بأيدي الأطباء العرب وإليها يرجعون على مدى العصور الإسلامية الزاهرة، ولو أنها صارت مؤخرا جزءا من المؤلفات العربية لا مستقلة عنيا. كما يفيدنا الرجوع إلى أصل المؤلفات اليونانية لنعرف أبعاد ما طبقه الأطباء العرب منها، وما أضافوه إليها من مبتكراتهم وخبراتهم الذاتية، ومما ييسر هذه المقارنة أن عموم المؤلفين في الطب العربي، أو على الأقل كبارهم كثيرا ما يشيرون في مؤلفاتهم إلى ما يقتضيه الاعتراف والتعريف بالمصادر التي أخذوا عنها معارف كتبهم. وهذا النهج ذا التأليف من سمات التراثيات العربية، وهو أسلوب جامعي في كل ما يكتب في صنوف المعرفة بعصرنا الحديث، أما ما تفعله تلك الإشارة فلا يعسر اكتشافه بشيء من البحث والاستقصاء. كما لا مفر لنا في هذه الدراسة أيضأ، إلا أن نلتفت إلى الجراحة النسوية التي مارسها العرب قبل الإسلام. فهذه أيضا مصدر مهم لهذا الاختصاص لا العصور الإسلامية. إلا أن تراثياتنا الطبية لم تسجل ذلك مع الأسف الشديد، وحصرت اهمامها في الطب اليوناني والإسلامي لا غير. إلا أننا نعثر على بعض المعلومات عن الجراحة النسوية في العصر الجاهلي في كتب الأدب ومعاجم اللغة العربية، وهي مصادر غير فنية ولا تقنع روايتها الباحث الجامعي. وقد انحدر ذلك الاختصاص إلى العصور الإسلامية الأولى ودخل كثير منه في الممارسة الطبية على مدى يزيد على القرن بعد الإسلام بنفس مستواه الأول أو بتطوير يسير. ومنه ما يزال يمارسه الناس إلى الوقت الحاضر. ومن البديهي أن تكون الأعرابية في الجاهلية قد. مارست القبالة وتدبير بعض الولادات العسرة، وأكثر الاحتمال أن الأم التي عبرت تجربة الولادة والنفاس والأمومة في حياتها وخبرت هذه الأحداث، هي التقي صارت من المولدات المعروفات. وأضحى تقليدا إن لم يكن لزامأ أن تكون القابلة أما قبل كل شيء، لأنها بهذه الحالة تكون أدرى بما يجب أن تعمله للماخض والنفساء والوليد. ومصطلح القبالة نابع من القبل أي تلقي الولد عند الولادة . ومنه جاء اسم (القابلة) وهي المولدة. وكانت للمولدة منذ أقدم الأزمان مرتبة ذات اعتبارخاص بين العوائل كما كانت تعتبر الأم الأعلى مكانة لم تنفخ في أنفه الحياة حين تسحبه إلى هذه الدنيا. وطبيعي أن تختلف درجات هذه الصورة باختلاف الشعوب. ولعل العرب كانوا من البارزين الذين قيموا مهنة القبالة واحترموا من يعمل بها. وكانت الأعرابية الحبلى حين تدنو من يوم أو ساعة ولادتها تنعزل في ركن من البيت يطلق عليه اسم (المثبر) فإذا جاءها المخاض جلست القرفصاء ودفعت بصلبها إلى أمام وهي تستند براحتي يديها وركبتيها على الأرض. أما القابلة فتقعد وراءها لتستقبل بيديها مجيء الوليد. كما تضطجع الماخض على جنبها أحيانا وتلد وهي في هذا الوضع . ولا حاجة أن نؤكد الخطورة التي يحملها هذان الوضعان على الوليد، والتخريبات الجسما نية التي تتعرض لها الأم أتناء اندفاعه إلى الخارج. وهناك ثمة دلائل تشير إلى أن الأعرابي الرجل قد مارس القبالة بدرجة من درجاتها، وليس ببعيد أن تكون العمليات البيطرية التي مارسها الرعاة على الأغنام والإبل هي التي هدتهم، أو اضطرتهم إلى أن يمارس الرجل تطبيق تلك العمليات على الماخض في الحالات المماثلة حين تفشل المولدة في إتمام المهمة. وتذكر المعاجم العربية أن الأعراب مارسوا عملية (السطي) على أغنامهم وإبلهم. وهذه العملية إجراء يستخرج به صغيرا لأجنة إذا نفق في بطن أمه. كما ذكرت المعاجم عملية (السطو)، وهي جراحة نظيرة لعملية السطي من حيث استطبابها والعمل بها، إلا أنها تطبق على المرأة الحامل إذا توفي الجنين في رحمها، وعسرت ولادته . ولا نعرف عن تقنية هذه العملية وخطواتها شيئا، ولا بد أنها كانت تتم عن طريق المهبل وبطرق عملية لا بتناول الأدوية، وتستعمل لها اليد وربما بعض الأدوات الخشبية أو المعدنية. وأكثر الاحتمال أن هذه العملية كانت من اختصاص المولدة، إلا إذا لم يتيسر وجودها، فيتقدم رجل له هذه الخبرة لإتمامها. قالت ابن منظور: لا بأس أن يسطو الرجل على المرأة، إذا لم توجد امرأة تعالجها وخيف عليها. يعني إذا نشب ولدها في بطنها ميتا فله مع عدم وجود القابلة أن يدخل يده في فرجها ويستخرج الولد) ونستدل من هذا النص أن هناك رجالا قابلين يعملون في هذه المهنة كالنساء القوابل. وعرفت المولدة الأعرابية بتجربتها وحسها الغريزي، علامات موت الجنين في بطن أمه. وقد سميت هذه الحالة (الحش) وإذا سقط الولد يابسا فهو الحشيش. ويقال في ذلك (إن المرأة أحشت أي هلك جنينها وجف في موضعه. كما قيل: لا يخرج الحشيش من بطنها حتى يسطى عليها). ومدلول كل ذلك أن الأعرابية كانت تستطيع أن تشخص وفاة الجنين، وتستطب له المداخلة بعملية الإسقاط، وهي معلومات بالغة الأهمية في الطب النسوي، ومبكرة بالنسبة إلى ذلك الزمن. وورد في المعاجم أيضا أن الأعراب مارسوا عملية التوليد عن طريق البطن، فيشقون بطن الحامل لحظة وفاتها لينقذوا جنينها قبل أن يتسرب الموت إليه من أمه. وأطلقوا على هذه العملية مصطلح الخشعة (بكسر الخاء وسكون الشين) وعلى المر) ة التي تتم عليها هذه العملية (البقيرة) (والخشعة ولد البقير، والبقيرالمرأة تموت وفي بطنها ولد حي، فيبقر بطنها ويخرج. والخشعة (أم خارجة) وهي البقيرة كانت ماتت وهو في بطنها ولم يرتكم فيبقر بطنها فسميت البقيرة. وسمي خارجة لأنهم أخرجوه من بطنها) . ومما يذكر بهذا الصدد أن خارجة بن سنان قد جاء إلى الدنيا بهذه الطريقة، وكذلك بكير بن عبد العزيز ، وكلاهما جاهليان. وتقابل عملية الخشعة بما يعرف بالإنكليزية Postmortem Caesarean Section والترجمة الحرفية لهذا المصطلح هي: العملية القيصرية على الحامل المتوفاة. ولا يزال استطباب هذه العملية قائما إلى هذا اليوم، إلا أن حالات تطبيقها نادرة جدا. ونقرأ في التواريخ القديمة أن البابليين في الألف الثاني للميلاد قد مارسوا عملية الخشعة ، وإن إمام الأطباء اليونانيين اسقليبيوس قد ولد من أمه كورونس وأبيه أوبولو بنفس الطريقة ، كما ذكر أن كلأ من رستم دستان ، ويوليوس قيصر قد ولدا بهذه الطريقة أيضا. والأرجح أن هذه الأحداث المزعومة أسطورية لا حقيقية، وواقع الحال أن كلأ من اسقلبيوس ورستم دستان ليس لهما وجود أكثر من تناقل اسميهما في كتب التاريخ القديم. وليس في الطب العربي إشارة إلى عملية الخشعة ولا إلى العملية التي تعرف اليوم بالعملية القيصرية. والعصر الجاهلي (200 سنة قبل الهجرة) يقابل زمنيا العصر البيزنطي المتأخر على الطرف الشمالي من الجزيرة العربية، والطب البيزنطي في تلك الحقبة هناك كان خلاصة الطب اليوناني منذ أيام أبى قراط المتوفى سنة 348 ق. م حتى حياة بولس الأجيني الذي أدرك بزوغ الإسلام وخالط المسلمين. ولا بد أن الاتصالات التي وقعت بين البيزنطيين والعرب كانت محصورة في التخوم المشتركة بين الديار العربية والبيزنطية. وأما في عمق الجزيرة العربية فلم يصل إليه الطب اليوناني. أي أن الطب الولادي والنسوي عامة ما قبل الإسلام، على ما فيه من البساطة والبدائية، كان طبا عربيا بحتا، ورثه المتطببون جيلا عن جيل، وليس فيه من الطب اليوناني شيء، وليس في هذا الطب بأي حال إشارة إلى عملية الخشعة أو العملية القيصرية. ومن العمليات التي مارسها العرب في الجراحة النسوية قبل الإسلام كما مارسوه بعده، عملية الختن التي طبقت على الصبايا من الذكور والإناث على السواء، وقد جعل الإسلام الختن من خصال الفطرة التي يجب الحفاظ عليها إلا عند الضرورة.. وكانت أم عطية الأنصارية من أشهر الخاتنات يومذاك، واستمرت تعمل بمهنتها حتى بزوغ الإسلام، وحظيت من لدن النبي (r) بنصائح في هذا الفن، وفي حدود عملها في ختن الصبايا البنات فقال لها: (اشمي ولا تنهكي فإنه أسنى لوجهها وأحظى لها عند زوجها) ، يعني خذي طرف الجلد ولا تستأصليها. وأكثر الاحتمال أن أم عطية كانت تمارس القبالة بالإضافة إلى مزاولة عملية الختان. ويرجح أن يكون العرب قدأخذوا عادة الختان من اليهود، أو المصريين الفراعنة. ولا تزال هذه العملية تمارس على الإناث في مصر والسودان إلى هذا اليوم باسم الطهارة الفرعونية. وقد اختفت أخبار الجراحة النسائية عند المسلمين على مدى قرن ونصف قرن بعد الهجرة. ولا بد أن نوع وسعة ممارستها كانت امتدادا لما كان يعمله الجاهليون مع تطوير إلى الأفضل إثر اتصال المسلمين بالأروام في حواضر سوريا الشمالية والعراق الشمالي، وفي دمشق بنوعية خاصة. ويفيدنا الفقه الإسلامي أن عملية الخشعة بقيت تمارس في الإسلام. فقد روى عن أبي حنيفة إذا استطاع امرؤ أن ينقذ جنينا حيا من بطن أمه لحظة وفاتها ولم يفعل فيعد قاتلا، وكأنه قتل الناس جميعا، ومن ينقذه من الموت فقد أحيا نفسا وكأنه أحيا الناس جميعا (،2). وكان جل الأطباء في صدر الإسلام بسورية ومصرمن الأروام الذين تعلموا الطب في مدرسة الإسكندرية. وكان منهم أهرن بن أعين ، وبولس الأجيني اللذان خالطا المسلمين وأفادوهم في تعليم الطب وممارسته. وربما كانت المرأة المسلمة عندئذ أكثر طاعة لهذه الفئة من الأطباء، على اعتبارهم غرباء عن ملتها، وأقل معرفة بهويتها فيكونون بالتالي أكثر حفظا لأسرار محرماتها من الطبيب العربي، إن وجد. وليس من المستبعد أن يكون بولس قد استدعى ذات يوم لحالة ولادية عسرة فأحسن تدبيرها وأنقذ الأم من هلاك محتوم. وكان هذا الطبيب متنطسأ بالجراحة النسوية والولادية. فعرف بين الأطباء بالقوابلي. كما اشتغل كل من تياذوق (الكوني) وماسجويه البصري ومسيح بن الحكم الدمشقي بهذا الاختصاص بقدر من السعة والحرية. وكانت مصادر هؤلاء الأطباء مستقاة من مؤلفات الأطباء اليونانيين أو البيزنطيين المتأخرين، وذلك قبل أن تترجم تلك المؤلفات إلى العربية في العصر العباسي الأول. والأرجح أن أولئك الأطباء قد قرأوا تلك المؤلفات بلغتها اليونانية أو بالسريانية التي نقلت إليها بقلم سرجيوس الراس عيني . ويثير انتباهنا أن تياذوق وهو يكتب في موضوع القبالة، ينتقي لقرائه من النصائح ما هو أخطر في الممارسة، وأكثر أهمية في تدبير الولادة ومداراة النفساء. فيقول في انحباس المشيمة وتأخر اندفاعها إلى خارج الرحم، (.. لا تمدها أي لا تسحب على الحبل السري- بل شدها إلى الفخذين، واستعمل التعطيس.. ثم يقول والمشيمة لا تبقى بعد الولادة زمنا طويلا، ولكن تنتن شديدا أو تعفن) . ولا يزال هذا النص بجملته وتفصيلاته نافذ المفعول إلى هذا الوقت. ويبدو التركيز على عدم السحب على الحبل السري واضحا في النص المتقدم، وذلك خشية من عقل الرحم واندلاقه إلى خارج، وهي حالة تسبب الموت الآني. وهذا التحذير هو لباب التقنية في عملية توليد الجنين واستخلاص المشيمة. وسوف نرى أن التعطيس إجراء مهم في هذه العملية وقد نصح به كل الأطباء منذ عهد تياذوق. في القرن الأول الهجري وحتى دور انحطاط الطب عند العرب في القرن العاشر. ولا بئس أن نفترض أن معلومات تياذوق في الطب الولادي كانت نظرية لا عملية، أي أنه تعلمها عن الكتب اليونانية لا بالمشاهدة السريرية والتجربة على المرضى، فإن الطب على مدى عمره الطويل كان يمارس إما بإعطاء المشورة الطبية أو بالمداخلة الفعلية، أو بكليهما معا. وينطبق تقرير هذا الواقع على الطب في كل العصور اليونانية بقدر ما ينطبق على العصور الإسلامية. ومن البديهي أن يكون للأطباء الكبار في كل العصور يد طولى في الممارسة الفعلية بكل أنواعها. ولم تتوفر لنا معلومات بشكل واضح عن الجراحة عامة إلا بعد ظهور مترجمات بيت الحكمة في بغداد لكتب الأطباء البيزنطيين، وخاصة كناش الثريا لبولس الأجيني ، وهو موسوعة ضخمة في الجراحة العامة وفي جراحة الأمراض النسوية معا. أما أول كتاب عربي ظهر في الجراحة فهو كتاب (في صناعة العلاج بالحديد) لإسحاق بن حنين. وهذا الكتاب مبادرة في فن الجراحة. ولأن بولس الأجيني كان قريب العهد بالمسلمين، وكناشه الثريا بالصيغة العربية كان أكثر كتب البيزنطيين المتأخرين بأيدي تلامذة الطب وممارسيه. ففي تصورنا أنه أي اسحق بن حنين قد أخذ كثيرا من كناش الثريا في كتابه الذي ذكرناه إلا أن هذا الكتاب لم يصلنا مع الأسف لنقف فيه على كثير من الأمور في الطب الجراحي المعروف يومئذ. ويقينا كان فيه شاء من الطب الولادي والجراحة النسوية، أو على الأقل في استطباب بعض العمليات الشائعة كالفصد والحجامة على الحالات المرضية التي تخالط الأمراض النسوية. ويبدو أن حالات الولادة بصنفيها السرح والعسر كانت من اختصاص القوابل على مدى العصور الإسلامية في المشرق والمغرب. وليس لدينا معلومات موثقة عن متطلبات عملية التوليد آنذاك، وعن أدواتها وآلاتها، والأدوية التي تستعمل من أجلها وما إلى ذلك. وثمة مؤرخون كشفوا لنا عن ممارسة الطب الشعبي بتقليد الحامل بعض الأحجار لمنع الإجهاض ، و ربط بعض الدويبات النافقة على فخذ الماخض لتسهل الولادة وتعجيلها (،3). وقد بقي كثير من الأطباء العرب، إضافة إلى بوسطاء الناس، يعملون بهذه الطرق لاعتقادهم أن فيها قوى شافية صنوا لما في الأعشاب الطبية من فعالية لا يمكن معرفة طبيعتها وطريقة عملها في الجسم المريض. وتفيدنا التراثيات الإسلامية أن المولدة كانت تجلس الماخض على كرسي خاص لهذه المناسبة . ونعتقد أن هذا الكرسي كان يومئذ من أدوات الترف وسمات الثراء فلا يستعمل إلا في البيوت الموسرة، وربما كان لكل عائلة كرسي خاص تتباهى بحسن صناعته، ثم صار كرسي الولادة واختفى بمرور الأزمان فلم يبق له وجود في أواخر القرن التاسع الهجري. ورجعت الماخض تجلس القرفصاء كما مر ذكر ذلك، على عادة جداتها السابقات في مضارب الصحراء. ولعل أول ما ظهرمن الكتب العربية في الطب النسوي هوكتب أبي بكر الرازي المتوفى سنة 320 ه/ 932 م. وهذا المؤلف من عباقرة الطب في كل زمان، وثائر على القواعد البالية في نظريات الطب وتطبيقاته. وكان تركيزه على الأمراض النسائية مما يلفت النظر، وقد أفرد جميع الكتاب التاسع من موسوعته (الحاوي في الطب) للأمراض النسوية والتوليد في الوقت الذي لم يكن يومئذ ما يكفي من الكتب للطب بشكله العام. وقد مارس الرازي القبالة على الحامل مباشرة، وبواسطة القابلة أيضا . ومما يجتذب انتباهنا بتعجب أنه كان يوصي بشق أغشية الرحم الأمامية لإهدار قسم من المياه الأمينوسية لكي يسفل الولادة ويقصرمن أمدها . وتمر هذه العملية الحيوية في كتاب اتيوس الآمدقي بعجالة وبشكل سطحي لا يوحي بسيطرة هذا المؤلف على معرفة معانيها العملية، وطرق تطبيبها. وقد أثبتت التجارب المتكررة صدق ما كتبه الرازي في هذا الموضوع، وأصبح شق الأغشية من أحدث التقنيات في تدبير الولادة التي تبنتها المستشفيات الكبرى بعد الخمسينات من هذا القرن. ويوصي الرازي أيضا بتقطيع الجنين المتحجر إذا عسرت ولادته . كما يوصي بقطع رقبته في حالة ضخم رأسه بالاستسقاء الدماغي. وقد تكون هذه العملية أوتلك أو ما ماثلهما هي (السطو) التي كان يمارسها الأعراب في الجاهلية، والقتل بأي شكل لا يرتاح إليه المسلم، وكل إنسان طبيعي، إلا أن إنقاذ الأم من هلاك مهدد، يبرر هذا العمل الممقوت، فكتبه الرازي وكأن الأمر اعتيادي. ويوصي الرازي بتركيز على عدم سحب الحبلى السري بعنف حذرا من اندلاق الرحم. وقد ذكرنا هذه التقنية فيما تقدم على لسان تياذوق. وسواء كان الرازي قد أخذ هذه الفكرة عن هذا الطبيب، أوأنه التقطها من تكرار الأحداث المفجعة التي تقع بسبب سوء تدبير استخلاص المشيمة بيد القوابل القليلات الخبرة، فإنا نتوقف عند قوله (عدم سحب الحبل السري بعنف) ونسأل لماذا لم يجعل عدم السحب مطلقا، فيمنعه بعنف وبدون عنف؟ فهل أجاز السحب على الحبل السري بلا عنف؟ أو انه افترض أن يعرف القارى الطبيب هذا الجواز؟ كان السحب على الحبل السري لاستخلاص المشيمة حتى الخمسينات من هذا القرن محذورا ومخيفا. ثم استحدثت بعد التاريخ المذكور طريقة لاستخلاص ص المشيمة يدخل فيها السحب الذي كان قبل ذلك محذورا عمله بأي حال من الأحوال. ومن أعمال الرازي اللامعة في الطب النسوي، فحص المريضات البواكر بجس محتويات الحوض بالإصبع عن طريق فتحة المقعد . ولم أعثر في المؤلفات اليونانية بالصيغة الإنكليزية المتوفرة لدينا من يذكر هذه الطريقة. ومن أعمال الرازي في هذا الاختصاص أيضا إشارته إلى المشيمة المتقدمة . على أن هذه الإشارة ملتوية وباهتة، ولم يتطرق فيها إلى أعراض هذه الحالة الشاذة وعلاماتها وأخطارها، وهذه الحالة المرضية ليست مذكورة في الكتب اليونانية بأي شكل من الأشكال. وبالرغم من أن الأطباء العرب يشيرون في مؤلفاتهم إلى المصادر اليونانية التي أخذوا عنها فيما يكتبون، إلا أنهم مع الأسف لم يحددوا مفردات وجزئيات ما أخذوه عنهم. فيذكر الرازي مثلا أنه أخذ عن بولس الأجيني في أسباب عسر الولادة، وحين يعدد مفردات تلك الأسباب يورد فيها ما لم يرد ذكره في مفردات أسباب عسر الولادة بكتاب بولس. من ذلك صغر جرم الجنين، أو ولادته قبل تمام عدة الحبل، أو وفاته . وهذه الأسباب الثلاثة لا يذكرها اتيوس الآمدي الذي هو المصدر المباشر لكناش بولس. ويبدو لأول وهلة أن الطفل الخديج، وهوعادة أصغر حجما من الكامل النمو، يندفع بسهولة في المسلك الولادي فلا يسبب عسرا في الولادة إلا أن الواقع في ذلك مخالف تماما. إذ أن الطفل الخديج، والميت والجنين الصغير بصورة عامة، يتعرض بكثرة إلى الاعتلانات (المجيئات) غير الطبيعية، التي هي السر الأعم في الولادات العسرة. وهذا ما كان في حسبان الرازي وتقديره فأثبته في باب أسباب عسر الولادة. وذكر الرازي عملية تدوير الجنين في الرحم، ليجئ الطفل بالرأس . والمجيء بالرأس هو الذي يجعل الولادة سرحة وبلا تعقيد، وفي غير ذلك تعضل الولادة وقد تؤدي إلى وفاة الجنين، أو وفاته ووفاة أمه معا. ويبدع الرازي في وصف خراج الحوض حين يقول: (هذه تكون مع حرارة حديدة وثقل في الظهر والأرحام. ثم يقول: وإن كان الخراج في مقدم الرحم كان عظيما واحتبس البول، وتتشكى مع الأورام في الرحم المعدة، ويهيج القيء والغثي، ولا يستمرئ الطعام، وذلك لاشتراكهما مع فم الرحم . ثم يقول: ووجع في السرة إن كان الورم في الرحم، وإن كان في أحد قرنيها (الأنبوبين) فتألم الأربية وكذلك الفخذ والساق التي في تلك الناحية) . ولا يتطرق الرازي إلى علاج هذه الحالة بعملية جراحية، أما علي بن العباس الأهوازي المتوفى سنة 369 ه/ 1005 م والزهراوي فيوصيان بفتح الخراج بعد نضجه . ويبدع الرازي أيضا في الكلام عن الرتقة وعلاجها، فيقول فيها (إما أن تكون في الخلقة أو من علاج قرحة. فافتح قبل المرأة فانك تجد فم القبل قد غطاه شيء شبيه بالعضلة. هذا إذا كان اللحم في القبل، وأما إذا كان في فم الرحم فإنه لا يخاف عليه حتى تبلغ الجارية الحيض، فإنه يحتبس فلا ينزل، فتلقى من ذلك أذى شديد أو تهلك عاجلا متى لم تعالج، وذلك أن الدم يرجع إلى بدنها كله ويسود ثم يختنق به. ثم يقول: وهذا اللحم إما أن ينبت في فم القبل، وهذه لا يقدر الرجل أن يجامعها، ولا تحيض أيضا ولا تعلق. وإذا كان من فم الرحم فإنها تجامع لكن لا تحبل. وربما كان هذا اللحم سادا للموضع كله، وقد يكون فيه ثقب صغير يخرج منه الطمث. وربما علقت هذه وهلكت هي والجنين، إذ لا مخرج له) . ولا أعرف نصا في التراثيات أو الكتب العصرية أفضل من ذلك. أما عن السرطان فقال الرازي: (ورم جاسي، له بنك متحجرة ويكون في فم الرحم. ويعرض منه وجع ش مديد في المربيتين وأسفل البطن والعانة والصلب، ويشق عليه لمس اليد، فإن كان جمع ذلك متعفنا قرحا سال منه صديد.ويعرض منه جميع أمراض الورم الحار، ولا برء له) وهذه هي لغة ما قل ودل، وكل ما يمكن أن يعرف به مرض السرطان في الوقت الحاضر. أما الزهراوي فيذهب إلى أبعد من ذلك، ويحذر من علاجه بأي عملية جراحية (148). وأعقب الرازي طبيب الأهواز الشهير علي بن العباس المعروف بالمجوسي. وهو أحد مشاهير الجراحين الذين ألفوا في الطب العربي. وله كتاب واحد لا غير، إلا أنه كاف لأن يرفع مؤلفه إلى المراتب العليا في الطب الجراحي عند العرب، ذلك الكتاب هو (كامل الصناعة الطبية) الذي يجوز لنا أن نضعه ندا لكتاب القانون في الطب لابن امحينا، وهو بأي حال أنفع، وعملي أكثر منه، وأغنى بالبحوث الجراحية وعلاجها باستعمال اليد والآلات والأدوات. كما أنه أدق منه في وصف الخطوات الجراحية، وأن وضوحا. ولكي يجعل المجوسي من كتابه المذكور ما يدعم الجراحة كاختصاص له أهميته النوعية في الطب، لم يبالى أن يضع الأمراض الباطنة لكل عضو في الجزء الأول من كتابه، ويضع أمراضها الجراحية في الجزء الثاني مه. فيتكلم في الجزء الأول مثلا في هيئة الرحم وأمراضها واحدا واحد، اسم يعود ويتكلم فيما يستوجب لها من العلاج باليد أو بالآلات الجراحية في الجزء الثاني. وزامن علي بن العباس في قرطبة كبير جراحي العرب أبي القاسم خلف الزهراوي المتوفى بحدود سنة 04 4 ه / 1012 م، والذي يحسب في أوروبا اللاتينية إلى جانب كبار الأطباء في العالم. وينسب الزهراوي نفسه إلى الأنصار ولا يستبعد أن يكون جده الأعلى من أهل المدينةالمنورة الذين رافقوا حملات الفتح الإسلامي في الأندلس، أو الذين وفدوها بعد ذلك. ولا نعلم بدقة ما الذي دفع الزهراوي إلى التخصص بالجراحة دون غيرها من علوم الطب السريري، في حين كان الطب يومئذ في الأندلسي لا يزال في بداية نشأته، كما كان أطباؤه مندفعين إلى دراسة الحشائش الطبية إثر وصول كتاب ديوسقريدس في مفردات الأدوية إلى قرطبة. وإذ أن أخبار الزهراوي تفيدنا أنه كان عالما محبا لعمل الخير، وكانت علاجاته للمرضى بالمجان، فلا يستبعد أن يكون ميله إلى الاشتغال بالطب الجراحي بدافع من حرصه على نشر هذا الفن والعمل به بعد أن رأى حاجة الناس إليه ونزرة من يمارسه. وفي هذا قال: (العمل باليد محسنة في بلدنا، وفي زماننا معدوم البتة، حتى كاد أن يدرس علمه وينقطع أثره، وإنما بقي منه رسوم يسيرة في كتب الأوائل قد صفحته الأيدي وواقعه الخطأ والتشويش. فرأيت أن أحييه وأؤلف فيه) . وكان الزهراوي دائم الشكوى من عدم توفر قوابل لهن معلومات كافية في التوليد، وطبيبات بمستوى المسئولية في ممارسة الجراحة النساوية. وهي إشارة لها دلالة واضحة على أن الزهراوي لم يكن كاتبا قي علم الجراحة النسوية والولادية فحسب، بل كان أيضأ يمارسهما بكثرة، وإلا لما اشتكى من قلة أو عدم وجود الأيدي المساعدة عندما يمارس هذا الاختصاص. وقد وضع الزهراوي موسوعة الطب سماها (التصريف لمن عجز عن التأليف) بثلاثين كتابا. كرس الكتاب الأخير منها للجراحة العامة والنسوية. وزوده برسوم للآلات التي يستعملها في عملياته الجراحية. وقد ترجم جيرارد الكريمونى المتوفى سنة 1187 م كتاب التصريف إلى اللاتينية في النصف الثاني من القرن الثاني عشر. وكان أعظم أطباء أوروبا يومئذ الجراح الفرن!حي غي شلياك. وقد أعجب بكتاب التصريف أي إعجاب، وقال عن مؤلفه إنه حري أن يعد إلى جانب أبقراط وجالينوس. وقال أطباء آخرون: في الطب ثلاثة علماء، يوناني وهو سلس، وبيزنطي وهو بولس الأجيني، وعربي وهو أبو القاسم الزهراوي . وقد طبعت ترجمة كتاب الزهراوي لأول مرة إلى جانب كتاب شلياك في البندقية سنة 1497 م. لقد كان الزهراوي يقظ الفكر، وتواقا إلى العمل الأصيل، وشديد الاهتمام بتوضيح أفكاره شرحا وبالصور أيضأ. وكتابه التصريف بجملته وتفصيلاته مبادرة إلى نوع من التأليف والأفكار العملية في الطب وسلسلة من الابتكارات العلمية لم يسبقه إليها أحد من علماء الطب. لقد عالج الزهراوي موضوع الحبل خارج الرحم (ه) أكثر مما تكلم فيه الرازي، وكذلك موضوع المشيمة المتقدمة. وتشخيص الحالتين يحتاج إلى معرفة بتشريح الرحم وملحقاتها، والتغيرات التي تلحقهما أثناء الحبل وا لولا د ة. إن الجراح النسائي والولادي يجب أن يكون له إلمام بالجراحة عامة، وبقواعدها الأساسية في التشريح وبآلاتهاالتي هي كثيرا ما تكون نفس الأدوات التي يستعملها الجراح العام في القطع، والبط، والسحب على الأنسجة، وخياطتها وما إلى ذلك. وللزهراوي يد طولى في تطوير هذه الآلات، وتصميم الآلات، وتصميم آلات أخرى خاصة بالجراحة النسائية. ويعتبر المقص من أهم أدوات الجراحة. ويحتمل كثيرا أن الزهراوي هو الذي اخترع المقص الجراحي النموذجي الذي ترتبط قطعتاه بمفصل بين فكيه القاطعين ومقبضيهما عند الطرف الآخر من هذه الآلة. أما المقص الأثري الذي استعمله اليونانيون فهو أقرب إلى المقص الذي يستعمله الرعاة لجز صوف الأغنام، والمحور الذي يتحرك عليه هذا المقص البيطري يقع في نهاية مقبضه لا في وسطه. وفي عمليات التوليد صمم الزهراوي آلة لدفع طرف الطفل (اليد أو الرجل) إذا سقط من الرحم أثناء الولادة، وسمى هذه الآلة: المدفع . وليس في كتب اليونانيين ذكر لهذه الآلة، أو ما يناظرها. واستعمل كل من بولس الأجيني وسورانس الأفسسي في التوليد صنانيرذات حوافي قاطعة ، بينما كانت الصنارة التي استعملها الزهراوي ملساء، وهي لذلك أقل خطورة وأسلم على الأم عند استعمالها في ظلمة المسلك الولادي. واستعمل الزهراوي مثقبا لجمجمة الجنين المتورمة بالاستسقاء الدماغي ، بينما استعمل الجراحون اليونانيون سكينا اعتيادية. فيكون الزهراوي بهذا قد أضاف بلمسة فنية آلة ذات نوعية خاصة في هذه الجراحة. كما استعمل الزهراوي زراقة . ووصف شكلها وذكر استعمالاتها بإسهاب، ووضع لها صورا توضيحية. وليس للزرافة تعبير في لغة الأطباء اليونانيين، وربما لم يعرفوها قط، وكانت أول آلة استعملت لتفريغ المثانة من البول هي التي اخترعها الطبيب الاسكندراني الشهير استراتوس وسماها Catheter، وكانت على ما وصفها جالينوس بشكل الحرف اللاتيني 3 بانحناء يسير في طرفي الحرف المذكور . واستمر الأطباء البطالسة والرومان والبيزنطيون يستعملون هذه الآلة دون تطوير. أما الزهراوي فلم ير لزوما للانحنائين في طرفي (الكاثيتر) وجعلها مستقيمة على طولها تقريبا، وسماها (قسطرة) وهو تحريف طفيف لاسمها اليوناني الأول الذي وضعه ارستراتوس. واستعمل الزهراوي للفحوص المهبلية آلة سماها ا لولبا) وربما أعطى هذه الآلة هذا الاسم لأنها تتحرك على لولب هو محور انفتاحها وغلقها. وهي تختلف اختلافا واضحا عن نظيرتها التي صممها سورانس انظر المخطط رقم (1). والزهراوي يصف هذه الآلة الهامة ويذكر استعمالاتها في كتاب التصريف باستمرار دون أن يذكر اسمها، وفرزا لا يعني شيئا إلا بقدر ما يشير إلى طريقته في الكتابة. ودرة ما عمله الزهراوي فن التوليد هو اختراعه (المشداخ) وهي آلة لفدغ رأس الجنين إذا استحال مروره في الحوض أثناء الولادة. والآلة هذه ذات فكين مزودين بمسامير لتثبت على رأس الجنين عند تطبيقهما عليه (انظر المخطط رقم 2). ولا ريب أن الزهراوي قد استعمل هذه الآلة على الأجنة الميتة في الرحم، أو بحكم المائتة، حين يدرك استحالة مرورها من خلال حوض الأم. وفدغ رأس الجنين بهذه الآلة ثم سحبه بها إلى خارج، لا خلاف في أنه ينقذ الأم من هلاك محقق. إن للزهراوي، دون منازع، الأسبقية في فكرة توليد الحوامل بالسحب على رؤ وس الأجنة. ولم يفكر أحد غيره إلا بعد ما يزيد كلى الأربعة قرون ونصف القرن في استعمال السحب بآلة على رأس الجنين عند الولادة. فأقدم وليم جمبرلن الفرنسي الأصل، الإنكليزي بالمواطنة، والمتوفى سنة 1596 على تصميم الملقط المعروف باسمه. ويعتبر كتاب التصريف أول كتاب عربي زوده المؤلف بالتصاوير والرموز، إلا أن من المؤسف أن كثير من، تلك التصاوير قد شوهها النساخون فابتعدت من الشكل الحقيقي الذي رسمها الزهراوي في كتابه الأصل. وتظهر هذه الحقيقة واضحة من رسومات المستشرق هنتتكتن وصنوه مارش التي نراها في طبعة كتاب التصريف بجامعة كاليفورنيا. وأخيرا فإن بحثنا هذا ما هو إلا دعوة إلى دراسة أوسع في مفردات ما صنعه الأطباء العرب في الجراحة النسوية وعسى أن يوفق الباحثون إلى مزيد من الاكتشافات بهذا الموضوع. **** الأستاذ الدكتور كمال السامرائي الجمهورية العراقية