سئلت رجاء عالم، ذات حوار، عن المرأة والكتابة، فقالت: لم أفكر أبدا أنني امرأة! من قرأ رواية بثينة العيسى الأولى «ارتطام لم يسمع له دوي»، وروايتها الأخيرة «خرائط التيه»، سوف يصاب بصدمة من المفارقة الصارخة بين العملين، لقد كتبت روايتها الأخيرة بقسوة، ستطال القارئ دون شك، وستربك جمهورها الحميم، لقد كتبت هذا العمل ولم تفكر أبدا أنها امرأة، وهو أمر في صالح السرد دون شك. .. كتبت بتول الخضيري «غايب»، وكتبت رضوى ثلاثيتها، وكتبت أوفقير عن سجنها، لكن نحن أمام عمل أقسى وأنكى في مباشرته، ووقع أحداثه! هل قسوة العمل، ومدى أثره على المتلقي دليل نجاح؟ وهل ينبغي على السارد أن يداوم على سرد الرومانسيات، واختيار النهايات السعيدة، التي هي سمة الأعمال الكلاسيكية؟ هي مجرد أسئلة ليس هذا مواطن إجابتها. مع الرواية: «سمية» تذهب للحج تفقد طفلها «مشاري» الذي لم يتجاوز السابعة لحظة طواف القدوم، الأب «فيصل» ينتشل زوجته من طوفان البشر، يذهب يفتش عن ابنه بين ملايين الحجاج، الأم تطوف سبعة عشر شوطا بحثا، لكنه ذاب في الزحام، لم يعلما أن دائرة البحث ستتسع تضاريسها، مكة، عسير، جيزان، البحر الأحمر، الجبال، السهول، السواحل، الصحراء، البحر، العريش، سيناء، في محاولة لتتبع أثر طفل خطفه تجار البشر، «فيصل» يريد أن ينقذ طفله قبل أن يباع أعضاء متفرقة، كل عضو على حدة! تنتشر صور مشاري النحيل في مواقع التواصل، تنتفض جدة، ومكة، وعسير، وجازان، والعريش، وسيناء، بحثا عنه. يأتي «سعود» من الكويت بملابس مهنته ليبحث عن ابن أخيه. الطفل الهزيل صاحب البشرة الفاتحة، قلب الدنيا، فالعادة يخطف من لا يشكل غيابه أهمية عند البعض، مئات الأطفال الفقراء المهمشين يختفون دون أن يكون هناك صدى، سوى صرخة مكتومة في جوف أم جائعة، أو دمعة رجل لا يجد أجرة التاكسي ليبلغ عن ابنه المفقود! .. «خرائط التيه» رواية حدث، ذات إيقاع سريع، واللغة كانت مجرد وسيلة تنقل لنا المشهد بكل تفاصيله عن قرب، في سلاسة، وإتقان، وصفها للشخوص، والأماكن، والحالة الإنسانية، والانتقال من مشهد إلى مشهد، من زمن إلى زمن، كانت بارعة في كل ذلك. حتى النهاية جاءت موفقة في رسالتين هادئتين تنطوي على الانكسار، والتساؤل، وهل هناك معنى لما حدث. ... أما الملاحظات التي استوقفتني فهي يسيرة، أبرزها التوتر السردي الذي سببه سرعة إيقاع الحدث، هذا التوتر قد يسبب القفز عدة صفحات؛ لأن رغبة القارئ الملحة في معرفة ما سيحدث تكون أهم بكثير من تتبع خيوط السرد، وأهم من كل التفاصيل الصغيرة التي لا تشبع فضول القارئ أمام رغبته في معرفة المصير، الكاتبة لم تدعنا نتنفس الصعداء، ف«مشاري» ما إن يتخلص من العصابة إلا ويقع في يد المجرم «نظام الدين»، ما أريد قوله أن التوتر السردي الذي أقصده لا يسلم منه إلا كاتب متمرس على دوزنة العمل أثناء الكتابة. الحديث عن تصوير المناسك، والترحال، والتيه، العراك الدموي، صور الجثث، الخوف، والارتباك، والفاجعة، والمشاهد القاسية، كل ذلك بدا مرسوما بعناية واضحة، سوى بعض الملاحظات اليسيرة حول المناسك والأداء، فالكاتبة كانت بحاجة لإحاطة بالمناسك، وفقه الاشتراط واليسر. هناك تكريس لبعض الصور النمطية، لا يتصور، أو من النادر أن يحدث في مكان يعتبر مأوى لكل الأجناس، والأعراق، والمذاهب المختلفة، مما يعطى طابعا تسامحيا متحضرا، أن تظهر فيه هذه الصور التي قد نجدها في أماكن أخرى. عند الحديث عن روائح الحجاج، وما يتركه الفوج من أثر، تمنيت أن يكون هنا فلسفة لجماليات القبح، والمعنى المنتظر، يقول الفرنسي إيرك إيمانويل عن الروائح «إن هذه الرائحة تذكرني بأني لست أفضل من جاري، إني أشم ذاتي، أشم ذواتنا، ولهذا فإني أشعر بأني في أفضل حال!»، لكن لعل الفاجعة لم تدع مجالا لذلك. بخصوص الإشارة للمكان والزمان في أعلى الصفحات أرى أنه لم يكن في صالح النص، فقد ساهم ذلك في كشف بيئة النص، حتى على مستوى الشكل، لم يقدم ذلك التنويه شيئا، وقد ذكرني ذلك بالتقنية التي استخدمها السنعوسي في رواية «فئران أمي حصة»، لكنها هناك كانت موظفة وجاءت في صالح النص. ... رواية «خرائط التيه» تكسب أهميتها وتفردها من أشياء كثيرة، لكن أبرزها أن العمل الذي كتب بشجاعة ووحشية غير مسبوقة، فرغم رعب «فرنكشتاين في بغداد»، وحديث حجي جابر عن تيه صاحب فاطمة، وخزي عبده خال في «ترمي بشرر»، إلا أن هذا العمل أكثر وحشية وقسوة، لا يتوقف الأمر عند هذا، بل يزداد عجبنا عندما تكون من كتبته روائية خليجية، بدأت روايتها الأولى بالحديث عن الحب، والغيم، والحليب، وبودرة الأطفال! في ظني أن ما جعلنا نقرأ نصا بهذه الجودة، ليس اطلاع كاتبته على تجارب الآخرين، بقدر ما هو استفادتها من تجربتها، وما يقوله الآخرون عن تجربتها. هناك لفتة أخيرة قبل أن أنهي هذه المراجعة، فصفحة الشكر الأخيرة، هي تنويه نبيل يليق بأهل السرد، وإشارة أنه ليس من المعيب أن نعرض أعمالنا على من نثق برأيهم وذائقتهم. أخيرا: «خرائط التيه» رواية بديعة ومؤذية في آن، لكنها أقرب للحياة، أقرب للوحشية التي نعيشها، إنها تدعو الإنسان لأن يوطن نفسه على الفواجع، وتقول له: «الزمن ليس حليفا لك، الزمن هو العدو».