صدرت هذا العام رواية لإبراهيم أصلان بعنوان «صديق قديم جدا» عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، وبما أني قرأت جميع نتاج إبراهيم أصلان رحمه الله ، فقد حرصت على هذه الرواية التي صدرت بعد وفاته بثلاثة أعوام، وقد بحثت عنها في معرض الرياض الدولي هذا العام ولم أجدها، وأوصيت بعض الأصدقاء الذين ذهبوا لملتقى القاهرة الدولي السادس للرواية العربية، وبحثوا عنها ولم يجدوها ثم أخبرني أحد الأصدقاء أن الرواية كانت توزع بالمجان في الملتقى! وجدت الرواية أخيرا في معرض الكتاب الدولي في أبوظبي، وكانت هذه الرواية من المكاسب الرائعة خلال رحلتي تلك. قبل أيام قرأت هذه الرواية، لكن ما لبثت وعلى غير العادة بنوع من الصدمة، صحيح أن لغة أصلان كانت حاضرة في الرواية، لكن دون إتقانه المعروف في رواياته، فمن يقرأ أعمال العم إبراهيم الروائية يدرك مقدار تجويد هذا الرجل لأعماله. وكنت على يقين أن هذه الرواية لم تكن لتصدر في حياته بهذا الشكل، وفكرت إذا كانت «حجرتان وصالة» صدرت عام 2010م ما الذي يجعل هذه الرواية تتأخر في صدورها إلى ما بعد وفاته بعد ثلاث سنوات! هذه الأسئلة جعلتني أتواصل مع هشام نجل إبراهيم أصلان الأكبر، لأعرف حيثيات هذا العمل، فأخبرني هشام أن الرواية عبارة عن حلقات سبق وأن نشرت على حلقات في جريدة الأهرام، جمعت بعد موته، ثم أصُدرت. لهذا في نظري «حجرتان وصالة» آخر رواية صدرت للعم إبراهيم، فقد بلغ الإبداع منتهاه عنده في عمله المدهش هذا، وهو نموذج واضح ل«الأسلوب المتأخر» الناضج الذي تحدث عنه إدوارد سعيد في كتاب الأخير. «حجرتان وصالة» متتالية السردية، لا يجيد إتقان زواياها إلا قامة سردية عظيمة مثل قامة إبراهيم أصلان رحمه الله.. ... وسبق أن ذكرت أني شاهدت في مرحلة مبكرة من عمري فيلم ال(كت كات) للمخرج داود السيد، وقد استوحى فكرة الفيلم من رواية «مالك الحزين» ورغم ضآلة وضيق وعيي في تلك الفترة إلا أن الفيلم أدهشني وأعجبني جدا، ربما أني في تلك الفترة كنت شغوفا بكل ماله علاقة ب«الواقعية الاشتراكية». «مالك الحزين» كانت بداية لقراءة كل نتاج هذا السارد المدهش، الذي يأسر القارئ بلغة بسيطة وفكرة عميقة، وفلسفة عظيمة يلوكها بسطاء أعماله، وإن كنت أفضل رواية (عصافير النيل). وتبقى رواية (وردية ليل) ذات طابع خاص لا نجده في أي رواية عربية وإن لم تتجاوز ال (60) صفحة، عوالم ليلية مع ساعي البريد الذي يقلب الرسائل ويرتشف فناجين الشاي.. .. بداية العم إبراهيم أصلان القصصية كانت بداية يعتريها ما يعتري البدايات وهذا ما نجده واضحا في مجموعتيه القصصيتين (بحيرة المساء) و (يوسف والرداء) لتتخمر التجربة وتتمخض بعد سنوات لتخرج لنا مجموعة قصصية من أعظم ما قرأت عربيا (حكايات من فضل الله عثمان) مجموعة ساحرة، سردية بالطريقة «الأصلانية» الفريدة، هذه المجموعة التي أعتز بشراء نسخ منها لأوزعها على الأصدقاء. .. أما بالنسبة ل«خلوة الغلبان» و «شيء من هذا القبيل» فهي مقالات ويوميات؛ لكنها كتبت بفن، بسرد أنيق فاتن، تقرر في البداية أن ترتشف الكتاب، لكنك تكتشف بعد ساعات أنك وصلت الغلاف الأخير! .. ما يميز تجربة العم إبراهيم بشكل عام؛ التقاط المشاهد الحياتية العادية، والكتابة عنها بطريقة غير عادية، بالإضافة للتكثيف والاقتصاد اللغوي، واشتغاله على الإنساني. .. مؤخرا صدر له كتاب بعنوان «انطباعات صغيرة، حول حادث كبير» يتحدث فيه عن حيثيات ثورة 25 يناير وما بعدها، بأسلوب جميل لذيذ، يكتب عن ذلك بنشوة الصغار، وانتصارات الكبار. عندما تنتهي من هذا الكتاب، تتلقفك الخيبة لما آلت إليه الأحوال، لكن العزاء إن كان هناك عزاء، هو أن العم إبراهيم مات وهو يتقلب في تلك المسرات الصغيرة، والتي أعقبها بعد موته حوادث كبيرة محبطة، كرحيل الصديق القديم جدا.