@ تركي الحمد قبل عشر سنوات.. كانت مجموعته القصصية الاولى تتهيأ للحياة, لكنها ضاعت وضاع معها حلم التجربة الاولى في الصدور, وبعد فترة طويلة من الصمت السردي, والتأمل في الواقع المغاير الذي صنعته حرب الخليج, اطل من جديد الكاتب السعودي محمد المزيني, لكن هذه المرة كانت اطلالته من نافذة مفتوحة على الفضاء الروائي, ليقدم لنا (مفارق العتمة) ويثير فضولنا في البحث عن اجوبة للعديد من الاسئلة التي طرحت نفسها, وتكون النتيجة هذا الحوار: عندما صافحته للمرة الاولى, وفتحنا نافذة الحوار, حاولت التعرف على شخصيته, وبعلامة استفهام استفزازية سألته: من انت؟فانكشفت على الفور.. ملامح مكتملة لشخصية ناضجة, فلم توجعه سطوة (الأنا) التي تملكت كثيرين غيره, ولم, الحظ انه قد علق (ذاته) في برواز مرتفع على حائط شديد التناقض مثل حائط الواقع الثقافي, ودون ادنى استغراب اجاب المزيني قائلا: انا كاتب رواية مبتدىء, لانه ثمة اشياء كثيرة تحلق في وجداني, وذاكرتي تطل على عوالم لاتزال تسكنها الحكايات, ولا تزال قابلة للبوح, فلا احب ان اكون منتهيا ولا نافيا, ولا منفيا, او مفاضلا او مفضلا, لأنها جميعها تشي بالإفلاس.. انا واحد عثر في مكان ما على شخوص تغص بتفاصيل كثيرة لأزمنة مختلفة, فنفخت فيها لغة السرد من خلال رواية (مفارق العتمة). @ رواية (مفارق العتمة) هي اصدارك الاول, وهذا يجعلنا في البداية نضع علامة استفهام حول الفترة الزمنية السابقة عليها, عن البداية وكيف كانت؟ * البداية كانت منذ فترة مبكرة, من خلال الكتابات القصصية القصيرة التي كنت انشرها في الصحف المحلية, وقبل عشر سنوات تقريبا كانت مجموعة قصصية من القصص المنشورة, وبالفعل حصلت على فسح من وزارة الاعلام بنشرها, لكن رغم تجهيزها بشكل نهائي للطباعة, لم يكتب لها الصدور. @ لماذا؟ * لانها فقدت, ولأنها في توقيت صدورها جاءت مواكبة لمرحلة تحول كبير في المجتمع, ذلك التحول الذي نتج عن العوامل التي افرزتها حرب الخليج, وهذا ربما يكون السبب في اني لم احاول بشكل جدي جمعها مرة اخرى, لاني شعرت بأن المرحلة تتطلب كتابة مغايرة, ولذلك توقفت لفترة عن الكتابات القصصية. @ لكن الكاتب لا يستطيع ان يتوقف, ولابد له من بوصلة يتجه اليها.. فماذا كنت تفعل طيلة هذه السنوات العشر؟ * اتجهت لكتابة المقال الصحفي, لكن لم يغب عني هاجس الكتابة السردية, الانسان نفسه يمر بمراحل انتقالية في حياته, وكان من الطبيعي التأثر بما احدثته حرب الخليج في بنية المجتمع بشكل عام, اضافة الى ان هذه الفترة تخللتها فترة دراسية امضيتها في بريطانيا, وهذه ايضا كان لها دور في اعادة صياغة الوعي الذاتي بما ينعكس على رؤية الكاتب ومفهومه للكتابة. @ هل هذا الذي جعلك تعود روائيا؟ * نعم.. فقد كانت تلك السنوات بمثابة حالة من التأمل, واستقرار الواقع بكل تفاصيله, والكتابة بهذا المفهوم قد لا تتحقق من القصة القصيرة التي تحد من انطلاق الرؤية باتجاه التفاصيل المهمة, لذلك لاقت الرواية هوى في نفسي, ووجدتني متعاطفا معها كشكل تعبيري يعطيني مجالا واسعا لاتحدث سرديا عما اريد, الرواية عالم خصب يمنح الكاتب قدرة على تناول الموضوعات وطرحها بشكل واسع ودقيق, في حين تفعل القصة القصيرة العكس, فهي تحد الكاتب عن سرد تفصيل الاشياء التي يرمي إليها, فلا يملك الا المرور عليها بشكل عابر, ولأني وجدت اشياء لا يمكن الاكتفاء بالمرور عليها بشكل عابر, كانت الرواية هي الخيار المناسب, فالمرحلة الزمنية التي مررنا بها منذ حرب الخليج وحتى الآن, لم تكن سهلة, وقد ساهمت في خلق وعي مختلف لدى المجتمع السعودي, وبالتالي كانت الرواية - من وجهة نظري - اكثر قدرة على تناول القضايا الاجتماعية وفق هذا المفهوم المختلف. @ لست وحدك الذي تحول للرواية, فهناك ما يشبه التوجه الجماعي للرواية, الكثير من كتاب القصة القصيرة والشعراء والنقاد دخلوا هذا الفضاء, فهل تعتقد ان التغيرات الاجتماعية بعد حرب الخليج لها دور في هذا التوجه؟ * التغيرات التي حدثت بسبب حرب الخليج هزت المجتمع السعودي, واحدثت خلخلة في وعيه وبنيته ونتيجة ذلك ظهرت ثغرات معينة لم تكن موجودة من قبل, وهذه الثغرات سحبت اتجاه الكتاب الى ضرورة الكتابة في قضايا اجتماعية فرضت نفسها, ولم تكن متاحة في السابق, والرواية هي الشكل الادبي الذي يملك القدرة على استيعاب مثل هذه القضايا, لذلك وجد كتاب القصة القصيرة انها لا تعبر بشكل مباشر ودقيق عن المرحلة الآنية لمجتمع شهد تحولا ملحوظا على مختلف المستويات, اضف الى ذلك ان القصة القصيرة كانت مغرقة في الذاتية, واتذكر هنا ما قاله الدكتور تركي الحمد عندما سئل عن كتابته للرواية فقد اشار الى انه كتب الرواية للتعبير عما يمكن التعبير عنه في مقال او دراسة متخصصة, هذا الكلام معناه, ان كل كتابة تستدعي الشكل المناسب الذي يمكن لها ان تخرج به وليست مجرد تحويل من اجل التغيير, لذلك نجد الساحة تعج الآن بالكتابات الروائية. @ اذن يمكن القول ان الرواية السعودية الآن تخوض مرحلة جديدة من التجريب, وبعد هذه المرحلة ستغيب اسماء, وتترسخ اسماء اخرى؟ * نعم.. نحن بالفعل نعيش حالة من التجريب في مجال الرواية, وهناك اسماء ستبقى, واسماء جديدة ستظهر, واسماء موجودة ستختفي, وهذا مرهون بالعامل الزمني, هي مرحلة اختبار, ومسألة اثبات جدارة في كتابة الرواية, الاعمال الروائية السابقة كان لها دورها, وكانت لها اهدافها, اما الآن فقد تغيرت الادوار, وتغيرت الاهداف, والمجتمع الآن بدأ يتشكل بوعي جديد, ويجب ان تكون الكتابة الروائية متسقة مع هذه التغيرات التي طرأت على المجتمع. @ التجربة السردية السعودية قصصيا وروائيا لم تحظ بمتابعة نقدية حقيقية, برأيك لماذا؟ * ربما لطول الاعمال السردية, والروائية على وجه الخصوص, فهي تحتاج من الناقد الى جهد اكبر لقراءتها والكتابة عنها, وقد ظهرت كتابات نقدية اراها من وجهة نظري اشبه ما تكون بالإشادة منها الى النقد الموضوعي البناء, اضافة الى انحسار الكتابة النقدية على مجموعة من الاسماء, واعتقد ان عدم المتابعة النقدية للرواية يحال الى انها تحتاج اكثر من غيرها الى جهد نقدي خاص, وادوات حاذقة, ودراية بما تحيل اليه تفاصيلها, فالرواية ليست عملا سهلا, وبالتالي فإن نقدها - ايضا - يحتاج الى مجهود ليس سهلا. @ لكن هناك جهودا نقدية تبذل في سياقات اخرى.. لماذا لم تنل منها الرواية حظها؟ * هناك اجتهادات, لكني اعتبرها او اعتبر معظمها مجاملات شخصية, والنقاد لدينا شغلتهم النظرية النقدية عن العملية النقدية ذاتها, وفي المقابل اعتقد انه من الضروري ان يكون العمل الروائي نفسه يشتمل على محركات تحرض الناقد على تناوله. @ اخيرا.. ماذا عن علاقتك بالمشهد السردي؟ * علاقتي بالمشهد السردي حميمة, وخصوصية جدا, لأني ارتشفت من كل عمل روائي عربيا كان ام اجنبيا ثمالته, وكلهم اصدقائي روحيا ونفسيا وعاطفيا, وشخوصهم ترافقني كحالات استثنائية من خلال نتاجهم الإبداعي, قصة كانت ام رواية.. محليا تبدأ من (ثمن التضحية) مرورا ب(خالتي كدرجان) احمد السباعي, و(حياتي مع الجوع والحب والحرب) عزيز ضياء, الى الجيل الذي يليهم مثل: محمد الشقحاء في (انتظار الرحلة الملغاة) وعبدالعزيز مشري, وعبدالعزيز الصقعبي في (رائحة الفحم) وابراهيم الناصر الحميدان الروائي الجميل الذي لا يسعه الا ان يكتب, وانتهاء بتركي الحمد, وغازي القصيبي, وعبده خال, والصديق العاق يوسف المحيميد, ونورة الغامدي, واميمة الخميس, وقد اعجبتني (الترياق) ولن انسى ليلى الجهني التي توارت بصمت, الى آخرهم الكاتب المبدع اللطيف محمد حسن علوان. @ هذا على المستوى المحلي, فماذا عن علاقتك بالمشهد السردي العربي والغربي؟ * علاقتي القرائية ممتدة الى ابداعات الكثيرين, عربيا قرأت الطيب صالح, نجيب محفوظ, يوسف ادريس, ادوار الخراط, محمد الماغوط, صنع الله ابراهيم, احلام مستغانمي, الصادق النيهوم, عبدالرحمن منيف, حيدر حيدر, واسيني الاعراج, محمد شكري, عبدالله العروي, وغيرهم مما لا يسعني استحضارهم الآن, اما الكتاب العالميون فمنهم: باتريك زوسكند, باولوكويلو, ماركيز, والتشيلية ايزابيل الليندي, وباربارا فريشموت, والالماني نيكولاس بورن, وانبورغ باخمان, وروبير سويليه, ومن كوبا ادموند ديزنوس, وغيرهم اسهموا في تشكيل شهية (الحكواتي) داخلي, واثروا معجمي السردي, ولن اتحرر من الانتماء الى قافلتهم الابداعية كما يعمد البعض قصدا لاسباب شخصية بحتة لا علاقة لها بالعمل الابداعي, وربما هو نوع من الاستعداء الذي تحرض عليه انتفاخ الأنا العليا بلا مبرر معقول, وهو ما سينخر في اوصال اي عمل ابداعي, ويسقطه, ولن يحول من استمراء لعبة الاقصاء والرفض الا تفعيل دور جمعية السرد من خلال الاندية الادبية, ولكن: متى.. وكيف؟ @ وماذا تقرأ هذه الايام؟ * الآن انا مندس بين شخصيات ميجيل ديلبيس في روايته (المجنون) وشخصيات رواية (امرأة القارورة). لسليم مطر.