أتذكر درجة حزني عندما شرح لي الطبيب المختص أن أحد الأسباب الرئيسية لمرض والدي كانت تآكل جدران الأعصاب. وتحديدا فقد تسبب اهتراؤها إلى معوقات في مرور الإشارات الكهربائية الدقيقة التي تتحكم بمشيئة الله في إيصال نعمة الأحاسيس المختلفة التي ننعم بها في كل لحظة في حياتنا. وكنت أتذكر جدران أعصاب والدي في دعائي له بالشفاء دائما. وموضوع الجدران يستحق وقفة تأمل لأنه من العناصر العجيبة في حياتنا. كل خلية بداخل أجسامنا تعتمد بلطف الله وإرادته على تبادلات عجيبة في المواد المختلفة دخولا وخروجا من وإلى الخلايا بداخل أجسامنا والتي يقدر عددها بأكثر من ثلاثين ألف مليار خلية.. الحياة التي أكرمنا بها الله عز وجل لجميع المخلوقات لا يمكن أن تسير إلا من خلال تلك التبادلات. وعلى سبيل المثال، فنسبة الماء الهائلة في أجسامنا ليست في بطوننا، ولا عضلاتها، ولا أوعيتنا الدموية، فمعظمها بداخل خلايانا التي تحميها الجدران المنيعة. ولكن غرائب الجدران لا تقتصر على الكائنات الحية فحسب، فلو نظرت إلى تاريخ المدن ستجد أن معظم التجمعات السكانية المهمة كانت محاطة بأسوار دفاعية قوية بهدف ردع محاولات الاحتلال. ومن الصعب جدا، بل ومن المستحيل أن تجد من المدن التاريخية المهمة التي لم تحصن بالجدران.. من مكةالمكرمة، إلى المدينةالمنورة، إلى القدس، وغيرها من المدن الحضارية المهمة كلها كانت مسورة. وبعض من تلك الجدران لاتزال موجودة إلى اليوم. بل وبعض منها شكلت عمران تلك المدن. ومن الغرائب أن التوقعات المنطقية كانت أنه باختراع وانتشار استخدام البارود، والقذائف المدفعية، كانت ستصبح تلك الأسوار غير فاعلة، ولكن دور الجدران بقي أساسيا لدى بعض المدن على مر التاريخ، وإحدى الأمثلة المهمة على ذلك هي القدس. سور بيت المقدس من أجمل المنشآت العمرانية، وقد صمد لفترة تقاس بآلاف السنين وشهد صراعات دموية وفترات حصار من حضارات مختلفة. ومن العجائب أن أهم المقدسات لدى اليهود هي ما يسمونه «الحائط الغربي» نظرا لاعتقادهم بأنه جزء من جدران هيكل سليمان.. ويطلق عموم الناس من غير اليهود على هذا الجدار اسم «حائط المبكى»، والاسم الصحيح ليس «الحائط الغربي» أو «حائط المبكى» فهو «حائط البراق».. وبس!، وهو من الحقائق التاريخية التي تسعى سلطات الاحتلال إلى محاولة طمسها لإنكار الأصول الاسلامية للقدس. وطبعا الموضوع أكبر من مجرد محاولات طمس الهوية الاسلامية لزهرة المدائن، فقد شيدت السلطات الإسرائيلية جدران «العار» هو من المنشآت التي تعكس قسوة عجيبة.. جدارا بارتفاع يصل إلى ما يفوق طول عمارة بطابقين وطول حوالى 700 كيلومتر... تخيل منع البشر من ممارسة حقوق العبادة، والتنقل، والتعليم، والعلاج، والعمل، وزيارة الاقارب.. وتخيل جرأة وضع جدران إسمنتية صماء قبيحة في وسط هذه المدينة الجميلة؟. من يدرس التاريخ سيجد أن الأسوار الدفاعية التي يبنيها الإنسان غالبا ما تكون هشة مهما كانت قوتها: انظر مثلا في سور الصين العظيم الذي شيد منذ حوالى 2700 سنة للدفاع عن الامبراطورية الصينية آنذاك، بطول قدره حوالى عشرين ألف كيلومتر.. وللعلم فقطر الكرة الأرضية يبلغ حوالى أربعين ألف كيلومتر. وقد توفي ودفن في هيكل السور نفسه آلاف العمال الغلابى أثناء البناء. ومن الأسوار العجيبة أيضا سور الاطلنطي الذي أمر بتشييده هتلر بعد احتلال فرنسا للدفاع عن المناطق التي احتلها علما بأنه افترى واحتل معظم أوروبا. وكان طول هذا السور حوالى 2600 كيلومتر وغطى سواحل فرنسا وهولندا وبلجيكا والنرويج وكان من أكبر المشاريع الهندسية المدنية في القرن العشرين.. ولا ننسى في التاريخ الحديث جدار برلين الذي امتد بطول 155 كيلومتر وكان يمثل أحد رموز الظلم في العالم بفصله العاصمة الألمانية إلى أن توحدت عام 1989. أمنية هناك من يتخصصون في بناء الجدران.. بعضها إسمنتية، وبعضها مكونة من الجهل والتقوقع.. يصبح همهم الاول في الحياة هو فنون منع الدخول علما بأن جميع الجدران المذكورة أعلاه، والتي كان مفروضا أنها لا تقهر، قد تم اختراقها، بل وبعضها تم تدميرها بالكامل فلا يعرفها إلا من يقرأ التاريخ.. أتمنى أن يعيد العالم النظر في الجدران المانعة.. والله أعلم أنها لا تنفع إلا بما يسمح به الخالق. وهو من وراء القصد.