لا يختلف اثنان على ضرورة تطبيق الأنظمة، ومواجهة الفساد؛ أيا كان مصدره أو من يقوم به، ولكن كما أن الحقيقة السابقة هي أمر بديهي، فإن من البديهي أيضا أن تكون مواجهتنا لمختلف أوجه الفساد؛ نظامية، لأن عدم احترام بعض المستثمرين للنظام لا يعتبر مبررا لمخالفته من قبل الأجهزة المسؤولة عن تنفيذه، أما إذا قررت تلك الجهات (الرسمية) تجاوز الأنظمة واللوائح، وعدم احترام القانون بذريعة معاقبة المخالفين، فإن من شأن ذلك فتح الباب على مصراعيه أمام الفوضى، ليس هذا فحسب بل قد يؤدي ذلك إلى ما هو أسوأ، وأقصد بذلك شرعنة الممارسات التعسفية؛ التي قد تصبح سيفا مسلطا على أرزاق ومصالح الناس، وربما تخلق بيئة مناسبة لتجاوزات أكبر؛ قد لا تتوقف عند محاولة (الصيد) في المياه العكرة!. مناسبة المقدمة السابقة هو الخلاف الدائر حاليا بين أمانة جدة وبين العديد من رجال الأعمال وأصحاب محلات إعداد وبيع المواد الغذائية، الذين يعانون من قيام (الأمانة) بإيقاع عقوبات شديدة وغير نظامية على منشآتهم؛ تشمل الإغلاق الفوري؛ الذي تحكمه نصوص نظامية محددة لا تنطبق على معظم المنشآت المغلقة، إضافة للتشهير؛ الذي يعتبره قضاؤنا عقوبة قائمة بذاتها، ويتطلب تنفيذه حكما قضائيا منفصلا، ويأتي تحرك الأمانة كرد فعل على ما تكتشفه حملات المراقبة البلدية من مخالفات؛ تتراوح بين البسيطة والجسيمة. وأرجو أن لا يعتبر الرأي السابق تعاطفا مع أصحاب المطاعم التي ترتكب تجاوزات (خطيرة) ومرفوضة مجتمعيا وأخلاقيا وقبل ذلك دينيا؛ كونها تهدد الصحة العامة، ولكن قيام الأمانة بإغلاق المحلات والتشهير بها؛ بعيدا عن النظام، هو تجاوز غير مقبول، ومنح نفسها حقاً ليس لها، كما أن تطبيق الحد الأعلى من الغرامات على العديد من المخالفات؛ (شكلية) الطابع ومحدودة التأثير؛ هو بمثابة إعطاء ضوء أخضر لقيام الأمانة بكسر الأنظمة التي يفترض أن تحميها!، وهو أمر ينبغي التوقف عنده مليا، ومناقشته بكل موضوعية وهدوء، بعيدا عن التعصب للرأي الواحد، أو الوقوع تحت تأثير وجهات النظر الإعلامية، أو التأييد الشعبي؛ الذي قد لا يكون دائما على صواب. والأكيد هو أن عدم تدرج أمانة جدة في إيقاع العقوبات؛ يتنافى مع لائحة الغرامات والجزاءات عن المخالفات البلدية الصادرة بقرار من مجلس الوزراء عام 1422ه، كما يخالف القرارات والتعليمات والجداول التنفيذية الخاصة بهذه اللائحة وكيفية تطبيقها، ورغم ذلك فإنه لا ينبغي التشكيك في الجهود المقدرة للأمانة، الرامية لضبط سوق المنشآت الغذائية؛ وحماية المجتمع من جشع بعض أصحاب المطاعم الذين يخالفون الأنظمة. الوضع السابق أثار جدلا مجتمعيا كبيرا بين مؤيدي موقف الأمانة وبين منتقديها، وأدى للإضرار بشكل بالغ بمصالح الكثير من أصحاب تلك المنشآت، وهو مايسمح لهم (نظاما) بالتقدم بتظلمهم لوزير الشؤون البلدية والقروية، كما يجوز لهم التظلم من قرار الوزير أمام ديوان المظالم؛ حسب ماتنص عليه (اللائحة)، من أجل وقف ما يعتبرونه تعسفا في استخدام النظام؛ في حين يرى البعض بأن النشاط الحركي المفرط للأمانة هو محاولة منها لتسجيل انتصارات أو مواقف قد تبدو بطولية؛ وتستمد زخمها وعنفوانها من القلق الطبيعي للناس على صحتهم؛ وهو الأمر الذي لا يمكنهم المساومة عليه، خصوصا أن الحملات المكثفة للأمانة جاءت بعد تواضع أدائها في خدمات بلدية أخرى لا تقل أهمية من وجهة نظر الكثير من سكان مدينة جدة. ختاما، أثق بأن حل هذه المعضلة لا يكمن في المخالفة الصريحة للوائح والإجراءات، وإنما في التزام جميع الأطراف بالأنظمة، مع عودة الأمانة إلى التدرج في إيقاع العقوبات حسب ماتنص عليه اللوائح والتعليمات التنفيذية، أما إذا ارتأت الأمانة بأن الجزاءات الواردة في النظام لا تكفي، فإن الطريقة الصحيحة لتعديل ذلك هو المبادرة لاقتراح وتطوير جزاءات مناسبة؛ ولكن عبر القنوات التشريعية المعروفة، وعدم القيام بأي تصعيد من جانب واحد إلا في الحالات الخطيرة التي يترتب عليها أضرار جسيمة؛ مثل حالات التسمم الغذائي أو تشكيل خطر (فعلي) على صحة الناس، خصوصا أن هناك من يعتقد أن تراخي الأمانة - سابقا - في القيام بواجبها في هذا الشأن كان سببا في تدهور مستوى بعض المنشآت الغذائية، تبقى الإشارة إلى أن تغليظ العقوبات (المالية) بشكل كبير سيكون له نتائجه الملموسة لفرض هيبة السلطة (بالقانون)؛ لا بعدم احترامه، ورفع مستوى جودة تلك المنشآت؛ لأن القاعدة الشعبية تقول : مس قلبي ولا تمس رغيفي..