كان الواقع وجعا في دروب الحياة، يقف عند عتبته الشاعر والقاص الأردني جلال برجس بعيون متطلعة للقادم، يصنع الحلم تارة على حواف الوجع، وينفث تارة أخرى دخان الإبداع في سماء تلوح برقا ورعدا، كتب بلغة أنيقة، هزه في البدء برق الشوق لها، ودفعه رعد الفرار لعالمها، صنع من كوة الجبل مخبأ له، معتقدا أن العاصفة سوف ترنو إلى كوة في السماء، تعالت الأصوات بداخله «لكن الطبيعة حين تشرع في نحت ما تبادر إلى ذهنها من أنصاب النماء لا تتوقف إلا حينما تنتهي من إنجاز الفكرة». هكذا يعتقد، وهكذا يجعل جلال برجس من حفيف الورق سمفونية، ويصبح لقلمه سطوة يستبدل خلوته بنشوة شاهقة، يشتعل فيها هشيم صدره وينحني قلمه لأحرف وكلمات تمنحه مرآة كونية، يعترف أنها تجعله يرى نفسه كما لم يتمن أن يرى. إذن، صاحب مقصلة الحالم، أفاعي النار.. حكاية العاشق علي بن محمود القصاد، ورذاذ على زجاج الذاكرة، وشبابك تحرس القدس، ومجموعة شعرية، هو كأي غصن على شجر وقمر بلا منازل، حاز على جائزة «رفقة دوادين للإبداع السردي» عن روايته «مقصلة الحالم» ، وجائزة «روكس بن زائد العزيزي» عن مجموعته القصصية «الزلزال» ، وجائزة «كتارا للرواية العربي» عن روايته غير المنشورة «أفاعي النار.. حكاية العاشق علي بن محمود القصاد» . الإبداع الأدبي هو خرق المألوف وبحث عن ضوء ساطع في ليل المعنى.. لا تختلف فيه اللغة، ولكن تمتطي وسيلة الأجناس. فهل وجد برجس لون إبداعه الأدبي.. أم يتأرجح بين الشعر والرواية حين تعجز إحداهما عن نقل التزامه اتجاه الكشف؟. إضافة إلى أن الإبداع خرق للمألوف وتجاوز له، هو أيضا وعي لاجتراح حياة جديدة، لا بالمعنى الاختزالي، بل بمعنى خلق عالم يتجاوز السائد، بل يثور عليه، وهذه إحدى أهم سمات الحداثة التي تجاوزت ويلات الحربين الكونيتين، وثارت على السائد آنذاك، ونهضت باتجاه عوالم جديدة صادمة بشكلها ومضمونها وطروحاتها، إلا أنها رسخت ذاتها كإحدى أهم طرائق للتعاطي مع العيش التي لا تركن إلى السائد. والإبداع كبنية متكاملة رغم تفرع جنسويته، إلا أنه يتآلف كوحدة واحدة حينما نراقبه بعين المنجِز والمنجَز. في الشعر وجدتني أصوغ عالما يتجاوز لغة الحروب، ولون الدم، لا مرتدا إلى فكرة الإنسانية بكل طزاجتها وطهارتها فقط، إنما الذهاب أيضا إلى بعد ثالث من الإنسانية، عبر أنسنة الأشياء واستنطاقها لتكون حليفة لفكرة العيش المتجاوز للراهن اليومي المأزوم، وفي ذهابي إلى السرد وعالم الرواية لم أتخل عن الشعر، بل أخذت منه جنونه في اجتراح الفكرة، ولغته في مناكفة المألوف وتخطيه نحو ما يمكن أن أسميه خلق عالم روائي يتجاوز نمطية نقل الواقع كما هو بلغة تجمله أحيانا وتؤسطره، وتفككه أحيانا أخرى، وتتركه دون أن تعيد تركيبه. لذا أزعم أنني أجد نفسي في هذين الجنسين الأدبيين، كأنني نصف هنا، وآخر هناك، نكمل بعضنا، وتكمل الأفكار والطروحات بعضها أيضا. دلالة المفاضلة بين الشعر الذي هو ديوان العرب وبين الرواية يكرس مفهوم المفاضلة بين الأجناس.. مفاضلة بين الشعر والرواية، هل زمنك في الشعر أم زمنك في الرواية؟ هذا السؤال هو امتداد منطقي لما سبقه؛ لذا ستكون إجابتي امتدادا لما قبلها، لكنني أضيف، فأقول إن المفاضلة بين شيئين تعني بالضرورة أن شيئا متفوق على الآخر، فهل ذيوع صيت الرواية ومقروئيتها يعني بالضرورة تراجع الشعر أمام الرواية، بالطبع لا، فهنالك قراء للرواية، وآخرون للشعر، لكن الشعر نخبوي، وخصوصا الشعر الحديث والنخبوية دائما غير معنية ب«البروباغاندا»، وبالمنبرية، فزمني هو زمن الشعر والرواية هذين الصنفين اللذين تداخلا تداخلا لا يحرم كل منهما مكانه. لم يعد الشعر ديوان العرب وسجل مفاخرهم، واقتنصت الرواية هذا التاج لتصبح «ديوان العرب» .. في رأيك هل أتاحت أزمة الشعر فرصة للرواية لتعتلي عرش ديوان العرب؟ لا أنكر أن ثمة أزمة تلقٍّ في الشعر، ولا أقول أزمة إنتاج، وهذه الأزمة مردها إلى بعض عناصر الشكل الشعري الجديد، وهذا يعيدنا إلى تلقي فكرة الحداثة، حيث لم نكن مهيئين لها بالشكل الكافي، تماما كمن يشتري قطارا قبل أن يشيد سكة مناسبة، بحيث تطور الشاعر العربي المؤمن بالحداثة، دون عناصر تؤهله لخلق حداثه عربية، بمعزل عن المتلقي الذي بقي كلاسيكيا، فنتج بهذه الحالة متلق نخبوي. لكن هل تنفي هذه السمة ميزة أن الشعر ديوان العرب. بالطبع لا؛ لأن الشعر لا يزال قيد التعاطي حداثويا وكلاسيكيا وحتى في الأدبيات الشعبية. لذلك ذهب جزء كبير من ذائقة القارىء العربي نحو الرواية وسحر الحكاية التي لم تكن بمعزل عن عالمه، وحركته الأفقية والعامودية فيه. هنا ما زلت أجدني أقول إن للشعر عالمه وللرواية عالمها، المسألة مسألة نسبية لا أكثر ولا أقل. وما يدرينا ربما ما يحيق بعالمنا العربي هذه الأيام ينتج حداثة خاصة، تنسحب على الشعر قبل الرواية، وربما يحدث العكس. الأزمة التي ظهرت في جنس الشعر دفعت إلى الإقبال على جنس الرواية.. ألا تعتقد أن كثافة الممكنات في الرواية، من حيث تمثيلها للواقع على مستويات عدة، سبب صعودها وبروزها؟ يفضل الآدمي السير في الطرق الواسعة حتى لو كانت تؤدي إلى منشده بعد طول مسير، بينما يبتعد عن الطرق الضيقة حتى لو كانت قصيرة وتؤدي إلى النبع بعجالة. إنها النخبوية وعلاقتها بالشعر، والشعبية وعلاقتها بالرواية، ولو أن هنالك تيارا روائيا تجريبيا أخذ في الظهور لكنه يبقى من وجهة نظر المتلقي نخبويا، وهذا الأمر متعلق بمسألة الحداثة وتهيئنا لها. لذلك فإن ممكنات الرواية وعناصرها المتقاطعة مع عناصر العيش اليومي المتعلق بثقافة السرد جعلت المتلقي يدير ظهره للنخبوية وغموضها، رغم أن الغموض مسألة صحية، لكن هنالك كثير من الإبهام طرأ على المنجز الشعري الحديث، لكنه برأيي لم يؤد للآن إلى أزمة كما يشاع، بل هي مسألة مرحلة ستنقضي ويطفو على السطح ما هو حقيقي وجاد. هل صحيح أن القصيدة غير قادرة على اختراق المحظور والخوض في المحمول الذي هو متاح في جنس الرواية؟ بل اخترقت القصيدة كثيرا من المحظورات، لكن الأدوات المتاحة في الرواية ذات سمة مكنتها من الوصول لقلب المتلقي، بينما بقيت أدوات القصيدة الحديثة محاطة بهالة من الغموض تارة وبالإبهام تارة أخرى، لكن هل بالضرورة أن تتخلى القصيدة عن التكثيف وعنصر الدهشة والإحالات والإزاحات والغموض حتى تصبح ذات صيت عالٍ، إن فعل الشعراء ذلك فقد ذهبوا نحو كتابة ما يشبه الشعر، حينها يمكنني أن أعترف أن أزمة قد حلت به. بعض المنجز الأدبي توسعت دائرته، ليخرج النص إلى أبعد مما ترتضيه الوقائع التي يوفرها المجتمع ويرفض أن يقفز عن «المحافظ» .. فهل لغة التخاطب الجمالي التي كانت أقوى من لغة التخاطب الثقافي في النص غيبت الشعور بالخوض في المحظور؟ ما يغيب الشعور بالخوض بالمحظور هو الرقيب الداخلي، وهو برأيي أحد أخطر أشكال الرقباء، فكثيرا ما ينصب بعض الروائيين أنفسهم رقباء قبل الرقيب الذي اعتدنا على مقصه، وهذه أخطر حالة يمكن أن يقع بها منتج النص؛ لأنه يؤسس لفضاء ضيق لا يصلح للكتابة ولا للتلقي؛ لهذا استعان بعض الروائيين بلغة موازية رمزية للإحالة إلى ما يمكن قوله دون إزعاج الفكرة المحافظة المتعلقة بالتلقي، وهذه مثلبة تؤدي إلى نص مبتور، فإن كنت تخاف لا تقل، وإن قلت لا تخف. هل غياب التسلسل السردي في المنجز الروائي هو آخر ما قد يفكر به الكاتب بقدر تفكيره بنوعية الزمن الذي تكتنزه الحادثة الأدبية التي يصنعها؟ علينا أن نعترف أن المنجز الروائي الحديث بدأ يخرج من عباءة الرواية العربية الكلاسيكية بكل عناصرها ومن ضمنها التسلسل السردي، ويذهب باتجاه أشكال جديدة، وأساليب جديدة، ونوعا ما مضامين جديدة، لهذا لم يعد الروائي العربي مهموما بمسألة التسلسل السردي، خصوصا أنه يتكئ على تقنيات سردية حديثة مثل الفلاش باك، والتداعي، والمونولوج، وهذا كله لأجل أن يؤسس الروائي لاعتنائه بالزمن في طرحه الروائي، وبمقولته الرئيسية التي عليها أن تقال بأدوات مغايرة أيضا. العمل الأدبي هو الذي يصنع تاريخه.. هل يجب امتلاك ثقافة تاريخية ليتمكن الروائي من التحكم في فصول روايته وأحداثها؟ بالطبع، نعم، فكتابة رواية تعني كتابة حياة مكثفة تتسع لها صفحات الكتاب، وتستوعبها اللغة، وكتابة الحياة بحاجة لمعرفة عناصرها. فكيف لنا أن نكتب عن جندي هرب من معركة خاسرة، واختبأ في كهف وراح يحدث طائرا كسيرا قبالته عن تلك الحرب، دون كم معرفي كافٍ بالحرب من كل جوانبها. غياب حلقة مهمة جدا في النصوص الأدبية عند العديد من مفعلي المنجز الأدبي بشكل عام، سواء القصصي أو السردي أو النثري الشعري، في العالم العربي، كرس نوعا من «البؤس» اللغوي.. فهل يعني أن «البؤس» اللغوي، بمفهومه السوسيولوجي، أصبح واقعا وظيفيا يتعلق بلغة التخاطب، ومنه امتد إلى النصوص الأدبية بأجناسها المتنوعة؟ برأيي الشخصي أن هنالك أعمالا روائية تشبه جسدا قويا بعظام قوية، لكن ينقصه اللحم حتى يبدو أنيقا وصحيا، وهذا ينطبق على بعض الروايات التي افتقدت للغة حقيقية، من حيث محمولها الجمالي، ودلالاتها المعرفية، بحيث يمكننا فهم تلك الروايات على أساس أنها مجرد سيناريوهات لأفلام أو مسلسلات لا أكثر ولا أقل. هنالك من يرى أن روايات اللغة أخذت باجتياح متطلبات القارئ العربي، وينكرونها عليه، دون أن يعي أن اللغة متطلب أساسي في الرواية قبل اللغة، لكنه متطلب لا يمكن أن يكون منطقيا أو سليما دون أن يرتهن للتوازن بين المكون العام للحكاية وبين اللغة كلحم يكسو بنيتها. هل يمكن أن نرى لك نصوصا في أصناف متنوعة من الرواية كالرواية التاريخية مثلا؟ كتابة الرواية التاريخية مسألة ليست سهلة، وخصوصا أن نكتب التاريخ عبر رواية؛ لأن الرواية التاريخية الناجحة ليست نقلا حرفيا للتاريخ فقط، إنما يجب أن تتحقق بعض الإزاحات في التعاطي مع الشخوص والإحداث دون أن نغير في بنية الحقيقة التاريخية. هنالك من نجح في هذا الأمر، وهنالك من أخفق، ربما أذهب يوما ما لكتابة رواية تاريخية، وخصوصا أن الشرط التاريخي يتحقق الآن مع تقاطعه مع ما يحدث في عالمنا العربي، لكنني لن أكتب التاريخ خوفا من المجاهرة بأزمة الواقع، بل سأكتبه حتى أبين أن هنالك محطات تتكرر.