في كتب الفقه يبرز مفهوم الحرية كمقابل للعبودية، وهذا أمر متوقع في عصر كانت فيه المجتمعات تنقسم إلى عبيد وأحرار، لكن حصر مفهوم الحرية في هذا النطاق الضيق، الذي يجعلها مجرد حالة مضادة للعبودية، يجرد الحرية من معان كثيرة وعميقة تتضمنها. ومع انبثاق حركة التنوير في عصر النهضة الأوروبية، أخذ العالم يتعرف على صور متعددة ومختلفة للحرية كحرية التعبير وحرية التفكير وحرية العقل وحرية المعتقد، وغيرها، إلا أن الحرية في مفاهيمها المتعددة تلك لم تجد ترحيبا من بعض مثقفي المسلمين وكانت نشازا يتردد وقعه على سمعهم، فهم لم يروا فيها سوى أنها نتاج غربي دخيل على مجتمعاتهم، وقد دفعهم ذلك إلى التباري في إنكارها والوقوف في وجهها لصدها عن تحقيق أي تقدم أو انتشار في أوساط الناس. بالنسبة لهم لا معنى للحرية سوى أنها حال منافية للرق، أما ما كان غير ذلك فلا وجود له، فلا معنى عندهم لحرية العقل أو حرية التفكير أو حرية المرأة أو حرية الاختيار أو حرية التعبير أوغيرها، هم يرون أن هذه الحريات ليست سوى مرادف خطير للإلحاد والانحطاط الخلقي، وغياب الفضيلة، وأن عليهم أن يقفوا ضدها في كل أشكالها وأن يهاجموا من يدعو إليها. هذا الموقف المنكر منهم، يناقضه تماما ما جاء في القرآن الكريم من فسح واسع للحريات بما في ذلك حرية المعتقد، التي هي من أبرز قضايا الحرية في هذا العصر، فالقرآن الكريم يتضمن آيات محكمة تشير إلى حرية الإنسان في اختيار معتقده بعيدا عن الإلزام والإكراه كقوله تعالى: {لا إكراه في الدين}، {لكم دينكم ولي دين}، {فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر}، {إنا هديناه النجدين} وغيرها من الآيات التي تشير إلى أن الإنسان له حرية اختيار ما يشاء من المعتقدات، وعليه أن يتحمل مغبة سوء اختياره متى أساء الاختيار. لكن المعادين للحريات يظلون ينكرون حرية الاختيار التي منحها الله للإنسان فيتعمدون تجاهل الاعتراف بها، في إصرار بالغ منهم على تجريد الإنسان من الحرية وفي مقدمة ذلك حرية اختياره لما يعتقد به وإلزامه بأحد أمرين: الاتباع لما يقولون به، أو القتل!! ورغم أن وضع الإنسان بين خياري الاتباع أو الموت، يجبره على ولوج عالم النفاق عتقا لرقبته، ورغم أنه ليس من مصلحة المسلمين أن يكثر بينهم المنافقون، إلا أن هذا ما يحدث على يد أولئك المتعصبين الذين يريدون أن يكون الناس كلهم مثلهم فإن اختلفوا عنهم حكموا عليهم بالموت.