بدون دهشة الفلسفة، يصبح العقل ويمسي طفلاً مقيداً ينتظر ملء الفراغ بيقينيات التجهيل ومسلّمات التبليد.. ولأن من أهم دواعي الوعي الاعتراف بالمشكلة، فالمجتمع الذي يفتقد الخلق، وتنعدم فيه المساواة والعدالة، ويميل للتشدد والدموية والطائفية، ويرضى البغي والطغيان هو مغيبٌ تماماً عن وضوح الفكرة كما يذكر لوك، وعن مهمة الفلسفة كما يرى ماركس. تتركز رسالة الإسلام في الدعوة للعلم، ونبذ الخرافة والتبعية، والثانية تتبع الأولى ولا تسبقها، بمعنى لايمكن للعقل - وهو ميدان الاستقبال والإرسال المعرفي- نبذ الخرافة طالما لم يصل للمنطقية العلمية، ويؤمن بقدراته لدفع الوصاية عن المعرفة، فالحرية تنبذ الوصاية، والاستقلال يرفض التبعية، والعقل الحر ينظر فيبصر فيدرك، والتعجب لا ينتهي ممن يغيّب إدراك حواسه وفكره كقوله تعالى"وتراهم ينظرون إليك وهم لايبصرون" وفرق بين نظر فارغ وإبصار إدراك.. بفعل الخوف والحيرة والتوق للأمن استعمل الإنسان البدائي حيلاً لاشعورية للهروب من مخاوف الحياة التي لا يستطيع تفسيرها، فكان أن نظمها في عقد غيبي يبرر عدم المعرفة ويشيع شيئاً من الهدوء والطمأنينة النفسية، فتعلق بالنجوم والسحر والعرافة والكهانة والشعوذة، وهذا مدرك مفهوم، لكن بعد أن أصبح العلم قوة للتحكم في الطبيعة فغير معقول أن يلجأ الإنسان إلى قوى لاعقلية في تحليله للأحداث ويطلب مساعدتها للتخلص من المشكلات التي يواجهها تخلصاً وهمياً، بدل حلها أو مواجهتها بطريقة علمية. بتعليل بسيط؛ يظهر أن انفكاك المجتمعات من الخرافة يستعصي طالما بنيتها الذهنية مأسورة لها، وها هي أغلب المكتشفات العلمية التي وصلت لنا ننسبها للسحر والشياطين؛ "الراديو والبريد والتلفون والفاكس، والدراجة"السيكل" التي كانت تسمى حتى عهد قريب "حصان ابليس"، "فهو يدفع بواسطة شياطين الجن الذين يتحالفون مع سائقه حتى يثبتوه على ظهره، مقابل تنازلات ومعاهدات عقائدية، وكان راكب السيكل يعد مرتكباً للمحرم ويجلد ولا تقبل شهادته، وينظم صاحبه إلى قائمة ما يعرفون وقتها ب"الدشير" لأنه يركب"حمار الكفار".. يتضح من جملة "مقابل تنازلات ومعاهدات عقدية" استخدام الدين لترويج الخرافة، وهو مستمر مادام هناك مبتاع ومشترٍ ومروجٌ في سوقها. أما تصور حالتنا بدون "الكفار" فيغني عن الرد على غباء المخرفين.. بين الطب والشعوذة يتجاذب الإنسان الإيمان بين العلم والخرافة.. وما أن تحذّر من الانسياق خلف الخرافات حتى تواجه بسيل من الانتقاد الديني الذي يحمّل المعتقد الفاسد مسؤولية المغالبة والانفكاك، ويرد عليك: العين ذكرت في القرآن والسحر.. وبرغم أن الخرافة بعيدة عن المساءلة المستنطقة، أي التي تنتظر جواباً، إلا أن كلمة العين لم توجد في القرآن نهائياً، وما وجد هو تحذير من الحسد، واتقاء شر الحاسد، لماذا؟ لأن الحاسد الذي يتمنى زوال نعمة الغير هو إنسان شرير. في سورة الفلق أمرنا بالاستعاذة من شر الحاسد، لأن الحاسد لايتورع عن القيام بالأفعال السلبية لإضرار المحسود، فيضره بلسانه بالسب والتجريح، وتشويه السمعة، أو يوقع بينه وبين الآخرين، أو يعتدي عليه اعتداء حسياً، كل ذلك قد يحصل من الحاسد بحكم طبيعته غير السوية، ونفسيته المريضة. لكن القرآن لم يذكر أن أشعة لامرئية تنبعث من عين الحسود فتصيب الناس والأشياء بالأذى، فليس لعين الحاسد تركيبة خاصة ووظيفة مختلفة عن عيون البشر، والإيمان بقدرتها على الإيذاء نوع من الشرك، ولو كان لعين الحاسد قوة وتأثير للزم الاستعانة بتأثيرها لخدمة بعض الأهداف الاجتماعية والوطنية وتمرير خطط التنمية رغم أنف المخرفين. سوق الخرافة لا يتورع عن التمدد لنشر بضاعته الكاسدة لأنه يغرف من اللامعقول، ينطلق داعيه من وهم إلى توهيم بامتداد لامعقول، ولايتساءل عنه أهل الاتباع والانصياع، فداعية الخرافة صاحب مصلحة تجهيلية، أما المنقاد فهو لقمة مكتنزة يعتاش عليها أهل التجهيل والتعطيل للنشر والترويج.. وفي بيئة الخرافة تتفاوت قدرات الإنسان في نفض عقله منها وتطهير وجدانه من خزعبلاتها، خاصة وهي تربط بالمقدس، لذلك يحرص سدنة هياكل الوهم على غرس قوتها التأسيسية في البنى الفكرية بربطها بالمقدس، وليست من المقدس في شيء. أما تأسيس الخرافة فيبدأ من خلط المفاهيم والمصطلحات والميادين، كالخلط بين العلم والشرع، فليس هناك "علم شرعي" يوجد معرفة شرعية، العلم نهجه عقلاني استدلالي بحت لا إيمان فيه بل حقائق علمية لا يختلف عليها اثنان، ولا تقبل النقض ولو في حالة واحدة؛ لأنه إذا ظهر الاحتمال بطل الاستدلال في الشأن العلمي، أما نهج الشرع فوجداني روحي لايخضع للمقاييس العلمية.. ومن هذا الخلط التأسيسي تتهافت بقية التخاريف. ينبهنا جون لوك لأهم مسارات المنطق قائلاً: "إن القدرة على التفكير بوضوح هي ما يحتاج إليه العالم أكثر من أي شيء آخر"، ووضوح الفكرة لا يدرك في وسط عبيد التبعية والانصياع.. ولا يمكن توارده في فضاء الخلط والتخليط.. لذلك؛ ليس هناك شيء أدعى لممارسي الدجل من تحريم حرية التفكير، فبالحرية تتداعى العقول بالتفكير خارج صندوق القناعات المسبقة واليقينيات المطلقة، وتبدأ تتسلل النسبية إلى مسارب الوعي، تستنهض همة الدهشة وتستثير الوعي المدفون للانطلاق في رحاب الدهشة لمزيد من الفضاءات والصور المغيبة التي سبق ودخلت تابوت التابو، فعبودية الرأي الواحد امتداد لسلطات تتشكل كحزمة تشد القيد على مفاصل وجنبات الإنسان والحياة.. فيكون للحرية الجميلة شأن غير شأنها، كما يذكر الشاعر محمود درويش: من رضع ثدي الذل دهراً رأى في الحرية خراباً وشراً وليس هناك ذلّ كذل عبودية الفكر والتفكير، وبينما الحرية تكسب الفكرة الوضوح والدهشة تمدها بالإثارة، فبغياب الحرية تفقد الدهشة ويتأبى التفكير الحكيم.. "الدهشة هي الانبثاق الذي تتوالد عنه الفلسفة، وطريق الانتقال الأساسي الذي عرفه تاريخ البشرية المتمثل في الانتقال من الميتوس إلى اللوغوس أي من التفكير الأسطوري الذي يعتمد السرد والحكي في تفسيره للظواهر إلى التفكير الفلسفي بما فيه من تحليل ومنطق وحجاج عقلاني". إذاً فالفلسفة تبدأ بالدهشة، يذكر أرسطو أن "الدهشة هي التي دفعت الناس إلى التفلسف" وقبله صرح سقراط "ليس للفلسفة مصدر آخر غير الدهشة" وكما الاكتشافات العلمية باعثها الدهشة، فكذلك الشأن في الفن والتفلسف، إلا أنها في التفلسف أعم كون ميدانها يشمل الإنسان والوجود والمصير، ولا ترتبط بموقف أو ظرف معين كما في العلم والفن.. "والدهشة قادرة بذلك أن تجعلنا نتخيل كل شيء مختلفاً عما هو عليه، فنرى المألوف كما لو كان غريباً، والغريب كما لو كان مألوفاً.. فالدهشة نوع من اليقظة.. واليقظة أهم ما يميز الإنسان المفكر سواءً أكان فيلسوفاً أم فناناً أم عالماً" كتاب ما هي الفلسفة د. حسين علي. ومهمة الفلسفة مهمة أخلاقية؛ يرى ماركس أنها "العمل على تغيير العالم وتعديل النظم القائمة وتخليص الإنسان من الظلم وطغيان الخرافات" وهي نفس غاية الحق والدين، فالحق لا يناقض الحق، بل" الحكمة صاحبة الشريعة وأختها الرضيعة" كما يقول ابن رشد، فلا يمكن أن تكون الفلسفة مصدر تهديد للشريعة، لكنها السبيل إلى الإيمان بالله عن طريق العقل، لا بعبادة ما يعبد الآباء الأولون. حقيقة الخرافة أنها استهلاك استعبادي بالإنسان، والدفاع عنها بدافع الدفاع عن الإيمان تلبيسٌ كاذب، بدليل أن أهم علاقة إيمانية بين الله والإنسان مرتبطة ضرورةً بحرية الاختيار والتفكير (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر)، (بل الإنسان على نفسه بصيرة)، (أفأنت تٌكره الناس حتى يكونوا مؤمنين)؟! بفقدان الفلسفة يفقد الإنسان الحرية، وتموت ثقافة الإنسان، ويبدو إحياء الشعور بها نوعاً من النفخ في الرماد، ولم أر كهذا الزمان ظلماً وطغيانا؛ فنحن نستهلك من بلدان العلم جميع صنوف التقنية ووسائل الترفيه وندعو على أهلها بالويل والثبور وعظائم الأمور، وذلك نتاج مخرجات تعطيل العقل التي تدمر الأخلاق وتأبى الإنصاف.. لاغرابة؛ فالخرافة تتأسس دوماً وتستثمر في التربة القابلة للعاهات المعرفية، تلك التي يموت فيها الحس الإنساني؛ وتحيا بها رذيلة العنصرية والكراهية. تأتي المرأة في فضائها المعرفي الممنوح الضئيل - قياساً بالرجل - أكثر لجوءاً للخرافة والسحر، بغية الفكاك من الواقع وحل إشكالات العبودية والوصاية، فالشعور بالعجز عامل أساسي في اللجوء للخرافة واستمرارها، وفي مقال لاحق سيكون لهذه النقطة بالذات بسط أوفر. أما المفكر فهو من يستطيع أن يؤثر وعيه وعقله في نبذ جميع الأفكار المستبدة التي تحمل معنى مسلّمات سواء أكانت فكرية أم عقائدية أم تراثية (عادات وتقاليد)، فالتحرر من الموروث هو برهان السمو الفكري.. ويستطيع المرء أن يكون ذاتاً مفكرة فيتغلب على تلقائية وتبعية الفكر والسلوك، وعلى العوائق الذهنية التي يقيدها ما يسمى بالمسلّمات والمعتقدات في المخزون المعرفي إذا مارس رياضة التفكير المنطقي الحر وتعوّد كسر القيود والتصورات التلقائية المسبقة المؤسسة للبنى الذهنية الحاجزة لحرية المعرفة والتفكير. إنه؛ بدون دهشة الفلسفة، يصبح العقل ويمسي طفلاً مقيداً ينتظر ملء الفراغ بيقينيات التجهيل ومسلّمات التبليد.. ولأن من أهم دواعي الوعي الاعتراف بالمشكلة، فالمجتمع الذي يفتقد الخلق، وتنعدم فيه المساواة والعدالة، ويميل للتشدد والدموية والطائفية، ويرضى البغي والطغيان هو مغيبٌ تماماً عن وضوح الفكرة كما يذكر لوك، وعن مهمة الفلسفة كما يرى ماركس. بقي القول؛ إن الفلسفة في بلادنا سيئة السمعة وهو أمر غير مستغرب في مجتمعات تتخذ موقفاً عدائياً من العقل، وتطمئن أقصى غايات الطمأنينة للخرافات، ويبقى إنقاذ الأجيال من سلطة الخرافة تحدّياً جاهزٍاً لنفض حقل التعليم من رأسه إلى أخمص قدميه، وتغليب محبة "الحكمة"، فبها الشفاء؛ للعقول والأخلاق.