«الميكانيكي» رواية طاهر الزهراني، الصادرة في العام الماضي من الدار العربية للعلوم، ناشرون، نص سردي يشبه قصيدة طويلة، بما يحويه من خيارات جمالية، واقتراحات للقراءة والمشاهدة، تجد فيه عديد الكتب التي لم تقرأ بعضها، وعديد الأفلام التي لم تشاهد أكثرها لأنك أضعت طفولتك ولم تجد الوقت لاستعادتها. رواية سهلة وشديدة العمق في آن، تبدو لي منسابة وبعيدة الغور. بطلها ميكانيكي اكتشف فجأة أن الحياة في مكان آخر، فجرى ملهوفا ليعوض ما فاته، وعب من الحب الذي قصاراه قبلة على اليد أو شمة أو اقتناصة بصرية مغمورة بالرغبة، متابعة إغوائية حملتني للمتابعة وجرتني جرا للبحث عن الأفلام التي ذكرت في الرواية. شخصيات منحوتة بدقة، الميكانيكي الذي نكتشف عبره حياة صعبة محرومة من حضور الأب تبحث عن خلاصها في الفن، والحب الذي يأتي صدفة ويروح صدفة أيضا مثل كل الأمور البسيطة. سارة المرأة الناعمة الشقية المثيرة الغريبة المحبة للكتب والأفلام هي أيضا رغم ما تحيل عليه من لذة وإغواء فإنها تخفي غابة داخلية من الآلام. الصبي السوداني في القراج عالم بذاته، رغم حضوره المتقلص. الأم في حضورها الصباحي المقدس والراوي يقبل يدها وفي مشاهد علاجها. الأخت بنظراتها العصفورية على العالم. نص سردي مغوٍ مثير يلفت انتباهنا بقوة إلى فضاء سردي لم نتعود عليه، يمعن الراوي في وصفه بدقة في الكتاب واستثماره، وخصوصا العلية وما تحويه من أمور طريفة. طريقة طاهر في السرد طريفة، راويه يتكلم بضمير الأنا، ويحضر في نصه حضورا واضحا، فهو نفسه البطل، يسهب في العرض لكنه أحيانا يترك هذه الطريقة ليكتب فقرات على طريقة الرسائل، وهو في كل ذلك قادر على شدك شدا، ليس للأحداث على أهميتها، بل للمشاعر للرغائب لما يبدو معتادا من حياتنا وجميلا إلى أن يعكّر صفوه شيء ما.. أحببت طريقة طاهر في عرض عالم الميكانيكي الذي يبدو في ظاهره بسيطا لكنه عبر تقدم الفصول يظهر ثراء يجعلنا نتأكد أن بساطة حياتنا وربما فقرنا وربما أعمالنا الحقيرة ليست غير ستار، الحقيقة أن في الإنسان جنائن مخفية ولذائذ مستورة وخيارات كثيرة؛ يلزمنا فقط نبشها بلطافة لتظهر.. وطاهر لا ينبش التربة فقط، بل يهزها هزا مغويا فاتنا. * ناقد تونسي