نشأ العراق عليلا. وكان من الممكن أن يشفى... لو عملت قياداته على أن «تنصهر» فيه مكوناته المذهبية والطائفية، ويتعمق الانصهار الوطني فيه، فتصبح هناك شخصية عراقية واحدة، بصرف النظر عن الانتماء العرقي والديني. خاصة أن القوى الدولية المتنفذة (لحسابات خاصة بها) كانت تعارض إقامة دولة شيعية مستقلة، إضافة إلى معارضتها الشهيرة السابقة لإقامة دولة كردية مستقلة، تكون نواتها المنطقة الشمالية من العراق. ولكن الاستبداد (واستشراء الطائفية والمذهبية) أفسد النمو الطبيعي السليم للدولة المدنية العراقية... فالاستبداد العسكري كان من مصلحته أن يؤكد على «المركزية» الصارمة، التي تجعل العراق كله، وبكل فعالياته، يدور حول بغداد... بل وحول شخص الزعيم (الاوحد، الملهم، الضرورة... الخ). هذا أدى - بطبيعة الحال - إلى: تعميق الانتماء الطائفي والمذهبي، وخلق قدر من التنافر بين مكونات العراق الرئيسة. ادعت الديكتاتوريات العراقية - زورا وبهتانا - أن حكم (وإدارة) العراق بشكل سليم لا يتم إلا بهذا الأسلوب الوحشي والصارم. والحقيقة أن تلك الديكتاتوريات - وخاصة الأخيرة - كانت تعمل ما يحقق مصالحها ويضمن بقاءها، ولم يكن هدفها الأساسي هو: «الإبقاء على وحدة العراق»، بقدر ما كان همها هو الإبقاء على «زعامة الزعيم القائد» وأتباعه. حتى وإن افترضنا حسن النية - وهو غالبا غير وارد في هذا الشأن - فإن هذه المركزية تمزق، ولا ترتق، تشرذم ولا توفق... خاصة في بلد متعدد الطوائف كالعراق. *** حل الإشكال العراقي المأساوي كان يكمن في تولي ديكتاتورية مصلحة مقاليد الأمور في العراق... تعمل - بجد وإخلاص - على التطبيق السليم للديمقراطية والفيدرالية. ف «الفيدرالية» السليمة لا يمكن أن تنجح إلا في ظل نظام ديمقراطي... وإن نجحت، فإنها توحد ولا تفرق. إنها «الصيغة السحرية» الأهم، القادرة على خلق دولة واحدة (كيان واحد) من عدة كيانات، أو هويات مختلفة، خاصة عندما يقوم ال «تقسيم» على أساس مناطقي جغرافي... كأن تصبح كل من «المحافظات»العراقية الثماني عشرة الحالية عبارة عن «ولاية». إن «الفيدرالية» - وهي اختراع سياسي حيوي وهام - هي الوسيلة الأهم التي يمكن أن تحقق هذه المعادلة الصعبة، عبر: إقامة كيان واحد متحد، مع تمتع كل من مكوناته (الولايات) بحق إدارة نفسها، وفق الأسلوب الذي يناسبها وترتضيه، شريطة انسجامه مع الدستور (الاتحادي) العام للكيان الأكبر الواحد. وباعتبار العراق بلدا إسلاميا، كان من الطبيعي أن تكون الشريعة الإسلامية هي مصدر رئيس للتشريع فيه. إن هذه «الوصفة» هي العلاج الأنجع، الذي يوصي به غالبية علماء ومفكري السياسة الحاليين، من عرب وغيرهم، ليس للعراق الممزق المتعب وحسب، بل ولمعظم الدول الأخرى، التي تعاني من ذات العلل... وقد تم تبني الفيدرالية في دستور اليمن الذي توصل إليه الحوار الوطني اليمني قبل أن يستولي الحوثيون وميليشيا صالح على السلطة هناك. ويظل العراق أحوج للفيدرالية من اليمن. وقد تم تبني هذه الوصفة في آخر دستور صدر بالعراق سنة 2005 م. ولكن العراق افتقر إلى القلة القيادية المصلحة التي كان يمكن أن تضمن تناول البلد المريض لهذه الوصفة الشافية - بإذن الله -. كل القيادات العراقية التي تولت السلطة فيه بعد استقلاله، كان همها الاكبر هو : تكريس بقائها في السلطة، لأطول فترة ممكنة. فحرم هذا البلد من التعافي والشفاء، وأوشك محبوه على تشييعه قريبا لمثواه الأخير.. لا حول ولا قوة إلا بالله.