في سوابل المدينة يمضي جائعا رفيقه التعب، يتأمل في سحن الآخرين وهم يمرون به بحذر ويتأملون في مظهره الفقير بريبة، ويتجنب ما أمكن الاحتكاك بهم ويخشى استفزازهم. يسمع عبر النوافذ والأبواب أصوات النساء والأطفال واجتماع الأسر وتجتاحه الذكريات وتمطر عليه كالسحابة بالكدر. بعد فترة من التيه والتجوال الممض، اعترضته حديقة مهملة فيها بقايا من شجيرات حنا تتوسطها شجرة سدر عتيقة بقي بعض من أطرافها مورقا وتحتها تناثرت مساحات ضئيلة من بقايا (نجيلة) خضراء طغى عليها سافي الرمل ويابس الورق. عندما جلس وجد صعوبة في طي أطرافه، وأحدثت مفاصله فرقعة مسموعة ثم تمدد في رفق مستلقيا على ظهره، مسبلا يديه إلى جواره ومحدقا في أفرع الشجرة العتيقة التي تتخللها أشعة شمس الظهيرة متعامدة كحراب من الضوء وقد بانت له من خلال تباعد أغصانها الشحيحة، رقع صغيرة من سماء زرقاء صافية تسبح بها نتف من مزن متباعدة. سقطت عليه ورقة صفراء باهتة، راقبها بوهن وهي تهوي على مهل حتى استقرت على وجهه، التقطها بين أصابعه، قربها من عينيه وشم رائحتها وسرت لبرهة في حناياه ومضة رضا وفاض به الشجن. شجر قريتنا أيضا يساقط أوراقه في هذه (الحزة) من السنة قال محدثا ذاته المتعبة. وقد لاحت له في فضاء الذاكرة معالم من أطراف قريته الجبلية النائية. طرقها المتعرجة، وشجيراتها الخضراء المورقة، وحيواناتها الأليفة، وروائحها المتنوعة، والقطط السارحة في دروبها الضيقة، وأبوابها المفتوحة وصباحاتها الناعسة المجللة بحلل كثيفة من قطرات الندى. وضع ذراعه على عينيه يستجدي النوم فذهب في حالة من نعاس ما بين النوم واليقظة، ثم لم يلبث أن غفا وتلبسه طيف من الأحلام والرؤى. رأى نفسه سعيدا يخطو بفرح في وسط مروج خضراء شاسعة لا نهايات لأطرافها، تموج بحقول القمح وقصب الذرة، وفي وسطها تماما يقبع كوخا صغيرا مشيدا بحجارة بيضاء كأنما قدت من أطراف قريته. في غمرة الحلم أيقظه الجوع، استوى جالسا وفرك عينيه وتأمل مجددا فيما حوله. مازالت كفه تقبض على تلك الورقة، وهاجس البحث عن طعام يستنفد حواسه الواهنة، والسدرة العتيقة تنتصب فوقه كعجوز عملاقة وتساقط عليه بسخاء مزيدا من أوراقها الصفراء الميتة.