قصة قصيرة قبل الغروب بقليل توقف القطر وبقيت السماء معتمة تتهيأ لإرسال مزيد من المطر. تسللت خفية وغادرت الباب الخشبي الذي أخرس البلل مفاصله فلم يصدر عنه أي صوت عندما فتحته مابين حذر وصمت. أسير حثيثا نحو وجهتي. تغوص قدمي في النقائع الصغيرة وحفر الطين المليئة بماء المطر وفضلات الدواب وأوراق الشجر وتحيل رياح الشمال وجهي إلى قطعة باردة يكاد يتجمد فيها جريان الدم. أحول بين الرياح وبين وجهي بوضع أطراف من عمامتي. تاركا موضع العينين مشرعا أتبين به عتمة الطريق. غير آبه بالبرد أو قدوم المساء. وقد انكفأ الناس خلف الجدران الحجرية وأبوابها الخشب يلتمسون الدفء وينتظرون الليل في دعة. يثرثرون حول النجوم وأخبار القرى وغزارة المطر والحصاد الآتي الذي يترقبونه ترقب الصائم للهلال. اقتربت من القبر الصغير المعزول في سفح الجبل الذي كف عنه المطر للتو. أتأمل في شلالات الماء الصغيرة المنسابة في صمت على أطرافه الباردة وأتخيلها دموع أرسلتها الغيوم حزنا عليه. أغرس إبهامي في الطين الطري الذي تحول إلى داكن أقرب إلى السواد لتشربه بماء المطر فيترك مكان أصبعي أثرا يتماسك بعد حين. أهز بكفي شجرة السذاب الخضراء النابتة إلى يمين القبر في الصدع الصغير الذي يطوق القبر من أعلاه ويعزله عن بقية الصخور البشعة العملاقة. فيتساقط عنها رذاذ الماء كثيفا وتفوح رائحتها العطرية من زهورها الصفراء الزاهية. تأخذني بعيدا كلمات جدي وردوده الموجزة الغامضة. لمن هذا القبر الصغير ياجدي؟ لطفل غريب. أجاب. وهو يعيد بعضا من أحجاره التي سقطت إلى مكانها. لماذا قبره وحيدا هكذا؟ لأن أبويه غريبان. ليسا من ديارنا كانا عابرين يجولان الأرض يبحثان عن لقمة عيش. وماهو اسمه. لا أعلم. يجب جدي متذمرا وقد بدا السخط يطفو على ملامحه القروية. أتخيل جسد الطفل الغريب وهو ينام مستلقيا على جنبه الأيمن ووجه نحو القبلة وقد عرك أنفه يستقبل الرائحة العطرية لزهرة السذاب التي مازالت ترتعش أطرافها الندية من هزة يدي. بينما جيرانه من الطيور تأوي إلى أكنانها تزقزق فرحة تتفقد أثار المطر وتملأ حواصلها قبل حلول الظلام. أسمع صوت أمي يتهافت من بعيد. يزداد وضوحا كلما خفت صوت الرعد الذي مازال يهدر بعيدا فوق سهول تهامة. تنادي باسمي ثم تصمت. تسير قليلا فيعلو صوتها مجددا. وبينما هي تقترب. يزداد الرعد والبرق والمطر. والقبر الصغير مازال مبللا. تقف أمي على مقربة منا وتزهم باسمي بصوت خفيض كي لا تفزعني ووجه يفيض شفقة. تستدير فأنهض مكرها وألحق بها عائدا نحو المنزل. قبل أن نغيب التفت نحو القبر الذي بدأت تغشاه الظلمة ويغيب في وحشة المساء ورذاذ المطر. أثناء النوم عند أطراف مخدتي ترتسم في الظلام والصمت والوحدة. واجهة القبر الصغير وصورة هلامية للوجه الذي يسكنه ويلفه الغياب. في صباح اليوم التالي أعبر الطريق الصخري الطويل إلى مدرستي. أعرج قليلا ناحية القبر المحاذي للدرب. أتامل في ضوء الشمس الأثر الصغير الجاف لإبهامي. وأتخيله في داخل قبره يعرفني ويبتسم. *السذاب شجرة برية لها زهر أصفر عطري الرائحة.