ولدت إيميلي ديكنسون في أمهرست (ماساشوستس) العام 1830، وهي الابنة الوسطى لثلاثة أبناء من إحدى العائلات المحافظة والعريقة في نيوإنغلند، كان لجدها دور في تأسيس جامعه إميرهست. والدها إدوارد ديكينسون رجل الدولة والسياسي ذو النزعة الوطنية، أخوها أوستن تعلم في مدرسة القانون وعمل كمحام، تزوج سوزان جيلبرت التي كانت مقربة بشكل خاص من إميلي، أما أختها الشقيقة لافينيا فلقد عاشت في عزلة مماثلة لعزلة إميلي. هكذا كانت حلقة العائلة، المكونة من الأخت والأخ وزوجته، الحلقة الأكثر إلهاما لملكات إيميلي الشعرية بحسب رأي النقاد. «صوفية نيوإنغلند» كما أطلق عليها لاحقا ظلت في بلدتها منذ نشأت حتى وفاتها، ولازمت منزلها الذي لا يزال قائما حتى الآن كمتحف خاص بها، وكانت لا تفارقه إلا في الضرورة القصوى. على امتداد حياتها القصيرة نشرت إيميلي عشر قصائد، وخبأت لنا في خزانتها ما يناهز الألفي قصيدة جمعتها على طريقتها في مجلدات كثيرة، نشر أول تلك المجلدات بعد رحيلها بأربعة أعوام، ونشر آخرها العام 1955. تركت ديكنسون وراءها إرثا غزيرا والكثير من الألغاز والحكايات حول حياة سرية مفرطة في العزلة في زمن العالم الجديد. فبحلول العام 1860 عاشت ديكينسون في عزلة شبه تامة عن العالم الخارجي، لكنها داومت بانتظام على المراسلة (تجاوز عدد رسائلها الألف رسالة)، أما بالنسبة إلى قراءتها الشعر، فالأرجح أنها إن كانت قرأت بعض قصائدها فذلك لم يتجاوز نطاق العائلة والمقربين فقط. شعر ديكينسون يعكس الوحدة، والمتحدث في قصائدها يعيش حالة من العوز، لكن لا تكاد تفارقه لحظات حميمية ملهمة تنبعث منها الحياة وتلوح فيها السعادة. تأثرت الشاعرة بالشعر الميتافيزيقي في القرنين السابع عشر والثامن عشر، بالإضافة إلى تأثرها بالضرورة بالبيئة المسيحية المحافظة لنيوإنغلند في تلك المرحلة. أحبت شعر روبرت وإليزابيث باريتي برونينغ وجون كيتز، ولم تهتم كثيرا بالشعراء الذين عاصروا تلك الفترة أمثال ويتمان، رغم أنها وويتمان اعتبرا بعد ذلك الصوتين المؤسسين للحركة الشعرية الحديثة في أمريكا على امتداد قرنين من الزمن. لم تنل ديكنسون التقدير اللائق خلال حياتها رغم غزارة إنتاجها، ومرد ذلك طبيعة كتابتها الاعتزالية. بعد وفاتها في مسقط رأسها إميرهست العام 1886، اكتشفت عائلتها حوالى 1800 قصيدة، أو ما يمكن تسميته «ملزمات»، تم ترتيبها بشكل دقيق بحيث تكونت الملزمة الواحدة من خمس أو ست أوراق قرطاسية تم تخييطها وطوي ما يعتقد أنه نسخة نهائية من القصائد، وقد اتبعت ديكنسون نمطا معينا في كتابة اليد وتنسيقا مختلفا من ملزمة إلى أخرى كأن تكتب الكلمات بشكل عمودي أو أفقي؛ ما جعل الترتيب النهائي لمجموعاتها يتأخر حتى العام 1981 عندما اعتمد رالف فرانكلين تقنيات متقدمة للكشف باستخدام الأدلة الفيزيائية في المخطوط الأصلي ومقارنة النصوص وطريقة الكتابة، وباتت طبعة «مخطوط أعمال إيميلي ديكنسون» (بلكناب برس، 1981)، الطبعة التي هي الأقرب إلى الترتيب الصحيح. ------------ شعرت بجنازة في دماغي ونادبون ذهابا وإيابا... استمروا يسيرون ويسيرون، حتى بدا ذلك الإحساس وكأنه يغور. وما إن جلس الجميع، وصوت مثل طبلة ظلت تضرب وتضرب، حتى ظننت أن عقلي بدأ يخدر. بعد ذلك سمعتهم يرفعون صندوقا وبصريره عبر روحي من أحذية الرصاص تلك، مرة أخرى، ثم بدأ فضاء... يرن، كأن الفضاءات كلها كانت جرسا، وأنا لست سوى أذن، أنا، وصمت، ثمة عرق غريب محطم، معزول، هنا. بعد ذلك لوح خشب كان وراء كل شيء، انكسر، وسقطت أنا... عميقا، عميقا إلى الأسفل... وارتطمت بالعالم، عند كل سقطة، وانتهى إدراكي، حينها. ------------ تعويض تحاول الشاعرة في هذا النص تحديد العلاقة بين الفرح بنشوته والألم بمراراته، ليصبح هذا التضاد بحد ذاته ضريبة سمتها: الأجر المدفوع. عن كل لحظة نشوة فرحة لا بد من أن ندفع أجرها على مضض على حذر نرتعش بقدر ارتعاشة نشوة حتى آخر الهلوسة. إزاء كل ساعة أبدية خالدة سنين قاسية من الأجر الزهيد بضعة بنسات مريرة مستقطعة وخزائن تمتلئ بالدموع. ------------ الفكرة المفقودة العنوان لهذه القصيدة كما لغيرها من قصائد ديكنسون، تم وضعها من قبل المحرر والناشر، وأحببت أن أشير إلى ذلك في هذا النص بالذات؛ نظرا لأن العنوان لأول وهلة يبدو جذابا وتجريديا قد يضفي على القصيدة بعد الانتهاء من قراءتها الكثير من الجمال البريء والتجريد؛ إلا أنه ومن منظور آخر لو أعدنا قراءة القصيدة يجوز أن نصفها بحالة نفسية تمارس الشاعرة فيها دور الانهيار، في كلتا الحالتين تبقى قدرة ديكنسون في خلق تجربة إبداعية ملموسة التصوير جلية. شعرت بشيء في خاطري ينشق كما لو أن عقلي ينقسم؛ حاولت رفوه، درزة درزة، غير أنني لم أتمكن من ذلك. الفكرة التي حاولت جاهدة الإمساك بها مع الفكرة التي سبقتها... غير أن التسلسل لم يكن بمتناول يدي مثل كرتين على الأرض. ------------ النجاح يصبح حلوا النجاح يصبح حلوا عندما يناله من لم يستطع النجاح وكي تستشعر لذة الرحيق السماوي يلزمك عوز الحاجة الموجع وليس كل من في الجماهير الوردية والذي يحمل راية اليوم يمكنه أن يخبرنا بوضوح ما هو تعريف النصر! لأن ثمة من ينهزم، يموت، ومن يحرم على أذنيه السمع ثمة سلالات بعيدة من الانتصارات لديهم ينفجر العذاب على مصراعيه.