واهم من ينظر إلى الابتعاث على أنه مجرد (انتقال مكاني) للحصول على شهادة رفيعة! فالشهادة يمكن الحصول عليها داخل الوطن. إن قرار المملكة الحكيم بتدشين برنامج الابتعاث كان إدراكا لما يعنيه الارتحال للتعلم من حصول مثاقفة فكرية وعلمية واجتماعية وعقلية لا تحصل دون هذه الرحلة في طلب العلم. فما الذي يا ترى نعطيه كمبتعثين للآخرين؟ ما الذين نعكسه لهم عن ديننا ووطننا؟ إن مئات الآلاف من الدارسين السعوديين في الخارج هم بمثابة الرسل لهذه البلاد المباركة، ومن ثم فإن واجبهم الأخلاقي كبير جدا. وقد وجدت من خلال تجربتي في الابتعاث أن المجتمع الغربي لا يعرف الإسلام إلا من خلال من يراهم من المسلمين، إنه لا يبالي كثيرا بما هو في القرآن، أو في الكتب، إنه يهتم فقط بما يراه ممن ينتسبون إلى هذا الدين. حين كنت في (ويلز) للدراسة، تعودت أن أقيم في مناسبة عيد الأضحى ما يشبه (حفل شواء)، حيث أشوي كمية من اللحوم ثم أقوم بتوزيعها على الجيران في قريتي الصغيرة، وكان أغلبهم من كبار السن. كنت أيضا حريصا على الابتسامة، وحسن التعامل، والوفاء بالحقوق المالية إلى أبعد حد. هذه (التصرفات) العفوية، انعكست لدى من حولي بشكل إيجابي مذهل! حين تهيأت لشراء سيارة ذهبت مع صاحبة البيت الذي أسكنه، وحين تفاوضت مع البائع أخطأت في الكلام، وتعثرت إنجليزيتي قليلا، فضحك مني البائع بسخرية. فما كان من العجوز صاحبة البيت إلا أن ضربت على الطاولة بقوة وصاحت: (wait.. wait)! وجعلت تقول للبائع: هذا الرجل هنا منذ أسبوع فقط، ومع ذلك يتكلم بهذه الطلاقة، أتحداك أن تتكلم أنت بجملة واحدة من لغته. فخجل البائع، واعتذر، وقال: لم أكن أقصد الإساءة، ثم خفض لي سعر السيارة بنسبة 5%! بعد ذلك بمدة انتقلت إلى منطقة أخرى تقل فيها الدور المؤجرة، ووجدت بصعوبة دارا مناسبة، ولكن صاحبها اشترط علي معرفا، وهاتفت صاحبتنا العجوز (رونا) فارتحلت من بلدتها إلى هذه البلدة، وقالت للمالك أجر له كما لو كنت أنا. وحين أنهيت دراستي وحل موعد السفر قبل وصول فواتير الماء والكهرباء، قال لي المالك: بوسعك أن تسافر، وحين تصل الفواتير سأبعث بها إليك! ولكني آثرت أن أنتظر حتى أسدد كل التزاماتي. والأهم من كل ما سبق أن كثيرين ممن احتككت بهم تعاطفوا مع الإسلام أو أوشكوا على الدخول فيه. كل هذه المواقف الإنسانية الراقية، والانطباعات الجميلة عن الإسلام، كانت نتاج معاملة حسنة، حاولت فيها أن أكون ممثلا صالحا لديني ووطني. إن الإسلام علمنا أن (القيم) لا ترتهن لدين أو جنس أو بلد! (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين). وعليك أيها المبتعث أن تدرك هذا المعنى، وأن تدرك أن رسالتك عظيمة، ومهمتك جليلة، لا سيما وأنت تنتمي لبلد الحرمين الشريفين، قبلة الإسلام، ومأرز الإيمان، فينبغي أن تكون أكثر حذرا وحرصا من غيرك، فما يغفره الناس لأي مبتعث سواك لا يقبلونه ممن يمثل هذه البلاد المباركة.