لو كنت تدرين ما ألقاه من شجن لكنت أرفق من آسى ومن صفحا هذا البيت للأخطل الصغير، قد لا يلفت النظر للوهلة الأولى، فمعناه الظاهر مكرور معتاد، يخاطب فيه الشاعر الحبيبة العاتبة الغاضبة بصيغة المعتذر، يود لو أنها تسامحه فيصفو الود بينه وبينها، ومثل ذلك يحدث كثيرا بين المتحابين ويتكرر ذكره بين الشعراء. لكن المتأمل في البيت قد تنساب إلى خاطره أمور إنسانية أخرى أبعد من هذا، فقد يرى فيه تعبيرا عن طبيعة الإنسان التي فطر عليها، والتي تجعله لا يرى سوى ما يود رؤيته وينكر ما سواه، فهذه الحبيبة العاتبة الغاضبة، لا تريد أن ترى سوى أن من أحبته ووثقت به خانها، أو خذلها، أو فضل عليها غيرها أو غير ذلك من التصرفات التي تراها مسيئة لها. وفي ظلمة الغضب والاحتراق بوهجه، تغمض عينيها عن رؤية أي شيء آخر غير هذا، هي لا تريد أن ترى احتمال أن الحبيب قد يكون فعل ما فعل تحت وطأة ضغوط مجبرة تركته يعانق الندم بعد ذلك، أو أنه الآن قد يكون يعيش الحزن والألم، ربما أكثر مما تعيشه هي، فهي على الأقل تجد في لومها له ما يخفف من حزنها، أما هو فلا يجد من يلومه سوى ذاته، ذاته التي خذلته وعجزت عن أن تحقق له ما هو أجمل وأحب!! بيت الأخطل هذا يذكر ببيت قديم لعروة بن الورد، الشاعر الجاهلي، يتحسر فيه نادما على حماقته التي دفعته إلى أن يرغم نفسه على فعل شيء يكرهه لمجرد إرضاء الناس، فكانت مأساته: (فيا للناس! كيف غلبت نفسي على شيء، ويكرهه ضميري؟!) أتخيل أن موقفي عروة والأخطل متشابهان، فكلاهما قدم فعل ما يكرهه في داخل نفسه على ما يحبه قلبه ويرتضيه، ظنا منه أن في ذلك الصواب، لكنهما ما لبثا أن اكتشفا أنهما لم يزدا على أن أورثا قلبيهما حرقة وحسرة ومرارة لا تفارقهما. غالبا التصرفات الحمقاء ترتد آثارها على أصحابها فيكتوون بأذاها، لكن الناس في معظم الحالات لا يرون ذلك. كم نظلم الآخرين، وكم نسيء الظن فيهم، حين لا نرى في سلوكهم نحونا سوى الجانب الذي أصابنا بالإساءة!!.