كان منظرا مهيبا بالنسبة لي عندما شاهدت مظاهر الحزن مع الفرح هناك في بلدة «عي» مسقط رأس الشهيد الأردني النقيب طيار معاذ الكساسبة. عندما كنت أسير بمركبتي متجها إلى موقع العزاء، أخذتني الأفكار كثيرا كيف سألتقي والد الشهيد وأقاربه، كيف سأتحدث معهم ومصابهم عظيم، مصابهم مات حرقا على يد فئة ضالة تريد الإساءة للإسلام. على طول الطريق المؤدي إلى قرية «عي» والمواكب الرسمية وغير الرسمية للمعزين تتزاحم، لحمة وطنية مهيبة، الكل ذهب لتأدية واجب العزاء، كان على رأسهم العاهل الأردني الملك عبدالله الثاني وكبار الضباط والمسؤولين بالدولة ومشايخ وعشائر الأردن وعدد من الدبلوماسيين هناك. وصلت إلى موقع العزاء، وترجلت عن مركبتي وأنا أحمل بيدي (مسجلي وكاميرتي)، دخلت إلى ديوانية العزاء التي كانت تعج بالمعزين، بحثت عن والد الشهيد صافي الكساسبة وإذا به مشغول مع المعزين، توقفت أمامه لحظات، انتظر فرصة للوصول إليه، حتى تمكنت من ذلك، اقتربت منه وقبلت رأسه وعرفته بنفسي وقدمت له واجب العزاء، وأكدت له أن الفقيد هو فقيد للمسلمين، شكرني، وطلب مني الجلوس بجانبه. قبل أن أوجه له أسئلتي، قال لي: أولا وقبل أن تبدأ أحب أن أعزي نفسي والأمة العربية والإسلامية والشعب السعودي بفقيد الأمة خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز ملك الإنسانية، فأنا كغيري تأثرت كثيرا ولكن عزاءنا وعزاءكم بتولي خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز، ملك الخير والعطاء فهو فخر لنا جميعا. بدأت حواري معه بسؤاله، ماذا يعني لك استشهاد ابنك معاذ؟ رد قائلا: الحمد لله والشكر لله، ابني بالسلاح الجوي ومدافع عن دينه ووطنه وأمته، وكان معرضا للاستشهاد في أي وقت وفي أي لحظة، وهو كان يعي ذلك جيدا، لكن الشيء المزعج هو طريقة قتله بهذه الوحشية من قبل تنظيمات الإسلام بريء منها، هؤلاء يبشعون صورة الإسلام أمام العالم. الخبر الصاعق سألته حول كيفية تلقيه الخبر.. فأجاب: كنت خارج المنزل وتلقيت الخبر بطريقة غير رسمية ونزل علي كالصاعقة، لكنني إنسان مؤمن، والمؤمن مبتلى، لا أملك الا أن أقول رحم الله شهيد الوطن. وعن عزاء الحكومة السعودية له وللقيادة الأردنية، يقول الكساسبة: البيان أثلج صدري وصدر الأردنيين، وخفف المصاب علينا، السعودية قيادة وشعبا مواقفها ثابتة لا تتغير، وهي عزوة للشعب الأردني لذلك لا أستغرب مثل هذا البيان. وحول توافد القيادات والعشائر إلى الأردن له لأداء واجب العزاء، يقول الكساسبة: استشهاد ابني معاذ أكد للجميع مدى تلاحم الأردنيين، وبين أن الشعب الأردني أسرة واحدة، ولا يفرقه كائن من كان، الحدث زلزل الناس لكن الجميع يقفون صفا واحدا خلف القيادة رغم اختلاف الأديان فيما بينهم. توقف قليلا لاستقبال واجب العزاء، ثم أذن لي أن نكمل الحوار.. سألته عن تنظيم «داعش» ومايشكله من خطورة على المنطقة، سكت قليلا ثم أجاب: هذا تنظيم فاسد، وهو فتنة خرجت لنا، لا دين ولا ملة لهم، ولعل حرقهم لابني الشهيد معاذ أثبت للعالم قاطبة أنه تنظيم خطير، يحتاج لوقفة قوية من العرب والمسلمين، والحذر من انجراف الشباب خلفه. أبناؤنا مشاريع شهادة سألته لو عاد به الزمن هل سيقدم ابنه للعمل في السلاح الجوي رغم خطورته، فقال: كل أبنائي فداء للوطن وللإسلام، لن أتردد في تقديمهم مهما كان، نحن عرب مسلمون ندافع عن ديننا وأرضنا ووطنا بكل ما نملك من قوة، ولن نتوانى عن الذود عنها. ولأن الجموع الغفيرة التي توافدت لأداء واجب العزاء لأسرة الشهيد لم تتح لي الفرصة أن آخذ وقتا طويلا مع والد الشهيد معاذ، فقد ختم الحوار قائلا: أحب أن أقول لكم ما قلته لجلالة الملك عبدالله الثاني في زيارته لي قبل قليل، بأن قدرنا في هذا الوطن الكبير أن نجعل من أنفسنا وأبنائنا مشاريع شهادة جاهزين قابضين على الزناد للذود عنه، وقدمنا كوكبة من الشهداء على تراب فلسطين وأسوار القدس منذ وقت مبكر، إلى أن وصلت أسماء قافلة الشهداء إلى الشهيد معاذ، وعزاء كل الأردنيين لمليكنا المفدى وللأسرة الهاشمية وللقوات المسلحة على اختلاف تشكيلاتها ومواقعها، وبالأخص منها سلاح الجو الملكي الأردني بجميع تشكيلاته. واستطرد والد الكساسبة قائلا: هذا الوطن أمانة في أعناقنا، وابني معاذ هو أحدهم، أنا وجماعتي وعشيرتي جاهزون للذود عن هذا الوطن العزيز، ونحن جند لله ولرسوله وللإسلام وللقيادة الهاشمية. قبلت رأس والد الشهيد، وطلبت مقابلة والدته إلا أنه أكد لي أنها في قسم النساء تتلقى التعازي هنالك، ولا تسنح لها الفرصة أبدا. الأردنيون: خليط من الفرح والغضب خرجت من ديوانية العزاء وتوجهت للعاصمة الأردنيةعمان، لا حديث لهم إلا عن معاذ الكساسبة، المركبات تحمل صور الشهيد والقيادة الهاشمية، الأغاني الوطنية تصدح في الشوارع فرحا مع حزن يمتزجان معا. ذهبت إلى أحد المجمعات التجارية والتقيت عددا من الأردنيين: * تقول المحامية راما أبو بكر: نحن حزينون لفقيد الوطن، الذي قتل بطريقة وحشية من تنظيم فاسد، لكننا فرحون كذلك بهذا التلاحم الوطني الكبير والنادر من نوعه بالعالم، ولا نستغرب الموقف السعودي الكبير من تضميد جراح الأردنيين بفقيدهم. * أما طارق الزير، فيؤكد أن الجميع لابد أن يكون حذرا من التنظيم الفاسد الذي يشكل خطرا على المنطقة، معبرا عن حزنه الشديد لفقيد الوطن معاذ. الإعلاميون الأردنيون كذلك يرون أن استشهاد معاذ الكساسبة على يد فئة ضالة كشف للعالم أجمع حقيقة هذا التنظيم الأسود ومآربه الخطيرة. * يقول الإعلامي الدكتور إياس شعبان: لا شك أن مقتل معاذ الكساسبة ترك زلزلة كبيرة للعالم أجمع وخصوصا الشعب الأردني، ونسأل الله العلي القدير أن يتغمده بواسع رحمته، لكن هذا الحدث الكبير المزعج وتعاطف العالم أجمع ربما خفف من الصدمة، فجميع دول العالم قدمت العزاء للعاهل الأردني وللقيادة ولوالد الشهيد، وهو أمر أثلج الصدر، وأكد أن الجميع يقف صفا واحدا لردع هذا التنظيم. * أما الإعلامية سوسن مبيضين فتقول: الشهيد البطل يزيد من وحدتنا، ونحن شعب نلتف خلف قيادتنا الرشيدة فهي الرائدة وهي الحامية لنا جميعا تحت سقف واحد وصفوفنا متماسكة، وسنواجه كل التحديات ونلتف ضد العدو الأسود وهو الإرهاب وسنخرج من الأزمة، كما هو الشعب الأردني أكثر ولاء وانتماء بشموخ وعز بشهيدنا البطل معاذ الكساسبة -رحمه الله. لقطات من الجولة: • إشادة كبيرة بالبيان والموقف السعودي في حادثة الشهيد الطيار. • والد الشهيد معاذ كان متماسكا. • جميع المجالس الأردنية ووسائل الإعلام بكافة أنواعها تتحدث عن بطولة الشهيد معاذ الكساسبة. • خلال زيارة الملك عبدالله بن الحسين لتقديم واجب العزاء، حلق سرب من طائرات f16 فوق بيت العزاء لتقديم التحية لذوي الشهيد الكساسبة والذي كان قائدا لإحدى هذه الطائرات المحلقة. • والد الطيار عندما كان يتحدث أمام الملك في مقر ديوان عشائر الكساسبة، قبل أن تحلق الطائرات الحربية الأردنية في سماء لواء «عي» مسقط رأس الشهيد، حيث قطع حديثه الحاج صافي الكساسبة وقال «هذه الطائرات عادت للتو من الرقة». • توافد كافة الأطياف لمنزل الشهيد لتقديم واجب العزاء. • جميع المساجد في الأردن صلت صلاة الغائب على الشهيد. • علقت صور الفقيد في ميادين وشوارع العاصمة. • مواليد جدد تمت تسميتهم باسم معاذ تضامنا مع الشهيد.