هل نحن فعلا بحاجة إلى تنظيم النسل؟ سؤال يطرح نفسه كون موضوع النسل من أكثر القضايا التي أحدثت جدلا في الفترة الماضية بعد مناقشة مجلس الشورى مؤخرا لوثيقة السياسة السكانية للمملكة، نتيجة لسوء فهم الجانب الشرعي في مسألة تنظيم النسل، بل المباعدة بين المواليد على وجه التحديد، الذي كما يرى إمام جامع الملك سعود بجدة وأستاذ العقيدة بالكلية التقنية الشيخ سعيد القرني أنه لا يتعارض مع الجانب الشرعي، بل على العكس، حيث حرص الشرع الحكيم على ذلك حفاظا على صحة الأم، ولضمان حصول الطفل على المدة الكافية للرضاعة والرعاية المناسبة. من جانب آخر، يحذر عدد من المختصين من النمو العشوائي للسكان، باعتبار أن المملكة من أكثر الدول التي شهدت نموا سكانيا في العقدين الماضيين، فبات من الضروري تنظيم ذلك بشكل يضمن الموازنة بين عدد السكان وموارد الدولة حتى لا ينعكس سلبا على الأجيال القادمة. مؤيدون ومعارضون أما المواطنون فقد انقسموا بين مؤيد لتنظيم النسل من حيث أنه ينعكس إيجابا على حياة المواطن العادي، إذ يضمن له مزيدا من الرخاء والرفاهية في العيش، ويحقق التوازن المطلوب بين نسبة السكان وموارد الدولة، وبين معارض له كون تنظيم النسل يصادر حق الأسرة في الإنجاب، كما رأوا أن معدل الخصوبة ليس مرتفعا إلى الحد الذي يدعو للقلق أو يتطلب تقنينه وتنظيمه، ولكل فريق حججه وأسبابه المقنعة. يستهل سعيد الزهراني حديثه قائلا: بالنسبة لي لا أؤيد تقنين النسل، وأرى أنه يصادر حق الأسرة في الإنجاب. كما أن معدل الخصوبة ليس مرتفعا إلى حد يدعو إلى تخفيضه أو إعادة تنظيمه من جديد. ويوافقه عمر السليمان الرأي، مضيفا: من الصعوبة بمكان تنظيم الإنجاب لأسباب كثيرة، في مقدمتها أنه قرار أسري، وبالتالي من الصعب أن نقيد الأسرة بقوانين أو نضع لها قيودا للإنجاب تخالف قناعاتها، وأعتقد أن سلبيات التنظيم تفوق إيجابياته، لذا فلا أجد مبررا يدعو إليه. ويؤيد ماجد معشي تنظيم النسل، معتبرا أنه ينعكس إيجابا على حياة المواطن، ويحقق له الرفاهية والرخاء، مشيرا إلى أن النمو السكاني شهد ارتفاعا في السنوات الماضية بشكل انعكس سلبا على المواطن، وتسبب في الكثير من المشكلات التي تنشأ عادة من ارتفاع النمو السكاني، مثل ارتفاع أسعار السكن وغلاء الإيجارات نتيجة ارتفاع الطلب، وارتفاع نسبة البطالة، والاختناقات المرورية وغيرها من السلبيات التي يفرزها ارتفاع النمو السكاني. ويؤيد بدر السلمي تنظيم النسل بشكل يضمن تحقيق الرفاهية والرخاء للمواطن، وبما يتبع الأسس العلمية، ويحقق التوازن المطلوب بين عدد السكان وموارد الدولة، لكي لا تنعكس الزيادة السكانية سلبا على الاقتصاد المحلي. وفيما يعارض محمد الحربي تنظيم النسل ويرى أنه يخالف قناعات ورغبات الأسر، يرى عبدالله الجفري أن التنظيم مطلوب، حتى لا يحدث انفجار سكاني ونمو غير مدروس يفوق الحاجة، وينعكس سلبا على دخل المواطن العادي، ويخلق أزمات في السكن، ومشكلات اقتصادية تنشأ من النمو السكاني غير المدروس نحن في غنى عنها، والذي لا يحقق التوازن المطلوب مع الدخل المحلي. وفيما لا يرى عبدالله المطيري حاجة لمناقشة خفض معدل الخصوبة نظرا إلى مساحة المملكة الكبيرة جدا، التي تعتبر ثاني أكبر دولة عربية من حيث المساحة، وبالتالي فإن الزيادة السكانية ستحقق التوازن المطلوب بين مساحة الدولة وعدد السكان. ويقف ماهر الحارثي موقفا وسطا يعارض تحديد النسل ولكنه يؤيد تنظيمه في الوقت نفسه، باعتبار أنه سيتبع الأسس العلمية الصحيحة في تحقيق التوازن بين موارد الدولة وعدد السكان، بما ينعكس إيجابا على رفاهية المواطن ورخائه الاقتصادي، وحتى لا يعاني من سلبيات التضخم السكاني وتبعاتها. ويؤيد فهد الثنيان تنظيم النسل تجنبا للانفجار السكاني والنمو السكاني غير المدروس، مشيرا الى أن النمو السكاني ارتفع في السنوات الأخيرة بشكل ملحوظ، ونتجت عنه سلبيات كثيرة كارتفاع أسعار الإيجارات، وزيادة الحاجة إلى عدد كبير من الوحدات السكنية لتغطي حاجة المواطنين في الأعوام القادمة، فيما يعارضه خالد سلام في الرأي معتبرا أن تحديد النسل وتنظيمه قرار شخصي للأسرة، ومن الصعوبة بمكان تقييده ما لم تدع الحاجة الشديدة إلى ذلك. النمو السكاني غير المدروس الباحث والكاتب الأكاديمي المعروف فضل أبو العينين يرى أن تنظيم النسل لم يأت من فراغ، بل جاء من واقع يستدعي ذلك، أولا للمباعدة بين المواليد، والتخفيف من السلبيات التي تنشأ من التقارب بينهم، كإهمال الجانب التربوي وما يتطلبه ذلك من من إعداد للطفل، والتفرغ له لينشأ النشأة الصحيحة، لأن كثرة الإنجاب، وعدم اكتراث بعض الأسر بالمدة اللازمة للفصل بين المولود السابق واللاحق نتج عنه نوع من التقصير في الجوانب التربوية لدى الطفل، حتى أصبحنا نشاهد الكثير من الظواهر السلبية التي لم تكن منتشرة في مجتمعنا قبل ذلك، نتيجة لانهماك بعض الأسر بأعباء شديدة، واضطلاعها بتربية عدد كبير من الأبناء بشكل يفوق إمكاناتها المتاحة. ومن جانب آخر، تعد المملكة ثاني أكبر دولة من حيث النمو السكاني، وتشهد نموا كبيرا في عدد السكان. وقد صحب ذلك النمو تبعات سلبية، من ارتفاع في نسبة البطالة إلى 11 % بين الشباب السعودي، وارتفعت الحاجة إلى المسكن، وبات من الضروري توفير عدد كبير من الوحدات السكنية لتغطي الطلب المحلي. نحن إذن، لسنا ضد الزيادة السكانية المنظمة والمطلوبة، ولكننا ضد الزيادة العشوائية غير المدروسة التي يمكن أن تسبب مشكلات كبيرة على المدى الطويل، إذا لم يتم تحقيق النمو السكاني على نحو منظم حيث ستزيد الاختناقات المرورية في المدن الكبرى التي تعاني أصلا من الزحام، وسترتفع نسبة البطالة بين الشباب الذين يمثلون أكثر من 70 % من سكان المملكة، وسترتفع الحاجة إلى الغذاء وخصوصا أننا دولة مستوردة، وكذلك الطلب على المياه، لأننا من أكثر الدول التي تعاني من شح موارد المياه بحكم موقعها الجغرافي. وقد رأينا في السنوات الأخيرة بعض الظواهر السلبية التي نشأت عن النمو السكاني غير المدروس، ومن الأهمية بمكان أن نلتفت اليوم إلى تنظيم النمو السكاني بما يحقق شقه الإيجابي، ويتلافى شقه السلبي، ليكون عامل قوة لنا وليس عبئا ندفع ضريبته بعد ذلك، مضيفا: يجب أن يكون التركيز على تنظيم النسل، والارتقاء بالقطاعات الخدمية للمواطن، بما يحقق له مزيدا من الرفاهية والرخاء، وكذلك ضبط تدفق العمالة الأجنبية ونموها في المملكة، للحد من البطالة، وتوفير المزيد من الفرص الوظيفية لأبناء الوطن. تنظيم الحمل مطلب شرعي وتحديد النسل محرم شرعا عن تنظيم الحمل من الناحية الشرعية، يقول أستاذ الفقه الإسلامي بالكلية التقنية وإمام جامع الملك سعود بجدة الشيخ سعيد القرني: تنظيم الحمل بهدف إعطاء المولود الأول حقه من الرعاية والرضاعة هو من الأمور التي راعاها الشرع الحنيف. ويستحسن للزوج أن يترك جماع زوجته أثناء فترة الرضاعة، وذلك لأن هذا يضر بالولد وقد ورد نهي الرسول صلى الله عليه وسلم عن «الغيلة»، وهي جماع الزوجة المرضع، ثم عاد عليه السلام فأباح ذلك، فكان نهيه نهي إرشاد وتوجيه إلى الأفضل والأحسن بما يضمن للطفل ما يستحقه من جهد ووقت واهتمام، وما يراعي الحالة الصحية للأم، ومن هنا تتضح لنا أهمية تنظيم الحمل من حيث المباعدة بين المواليد على نحو كاف يحفظ صحة الأم ويحفظ حقوق الطفل في الرضاعة والعناية. أما تحديد النسل فهو محرم شرعا ولا يجوز، لكونه يخالف الهدي النبوي ويتعارض مع قول المصطفى صلى الله عليه وسلم: تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم. وفي رواية أخرى: تكاثروا فإني مباه بكم الأمم يوم القيامة. ومن هنا نستخلص أن تنظيم الحمل هو مطلب شرعي أما تحديده فيخالف الشرع. الآثار السلبية للزيادة السكانية حذر الدكتور طارق كوشك أستاذ الاقتصاد بجامعة الملك عبدالعزيز من الآثار السلبية التي تخلفها الزيادة السكانية غير المدروسة حين تنعكس سلبا على رفاهية المواطن، نتيجة للنمو غير المتوقع للسكان مثلما حصل للعديد من الدول كجمهورية مصر الشقيقة التي شهد الدخل القومي للفرد بها انخفاضا كبيرا نتيجة للانفجار السكاني الذي حدث، والنمو السكاني غير المدروس، معتبرا أن معيار القوة لم يعد كما كان سابقا في عدد السكان، بل في نوعية السكان، ومستوى تأهيلهم وتعليمهم في ظل العصر المعرفي الذي نعيش فيه، مشددا على أن الكثير من التقارير العلمية تحذر من أن الحروب القادمة هي حروب سببها المياه نتيجة لشح موارد المياه مقارنة بالنمو السكاني الذي يشهده العالم، وعلى ضرورة دراسة ملف الزيادة السكانية ووضع الخطط المناسبة للتعامل معها، حتى تتفق تلك الزيادة مع الخطط التنموية للدولة، وحتى لا تكون عاملا مفاجئا لنا، بما يحقق الفوائد الإيجابية لذلك النمو السكاني، ويتلافى سلبياته بطريقة علمية ومقننة لا تغفل الجوانب الشرعية في الأمر. الشورى لم يناقش تحديد النسل أكد عضو مجلس الشورى الدكتور عبدالله العسكر أن المجلس لم يتطرق في مناقشته للوثيقة السكانية للمملكة إلى تحديد النسل، بل ناقش تنظيمه وعلى وجه الخصوص المباعدة بين المواليد لمراعاة الجوانب الصحية للأم لتوفير الفترة الكافية للطفل للنمو الطبيعي، والحصول على فترة الرضاعة الكاملة، مشيرا إلى أن المجلس ركز في مناقشاته على فترة المباعدة بين المواليد، بحيث من المفترض أن تكون الفترة التي تفصل بين المولود والثاني من 3 ‐ 5 سنوات، ولا تقل عن 3 سنوات كما أوصت منظمة الصحة العالمية للحفاظ على صحة الأم، ومنح الطفل الاهتمام الكافي، مشيرا إلى أن الهدف من مناقشة الوثيقة السكانية هو تحقيق التوازن المطلوب بين عدد المواليد وعدد الوفيات من جهة، وبين موارد الدولة من جهة أخرى، مؤكدا أن المملكة من أكثر الدول التي شهدت نموا سكانيا خلال العقدين الماضيين، ما يجعل من الأهمية عند مناقشة الوثيقة السكانية إعطاء تلك الأمور حقها الوافي من الاهتمام والمناقشة بين أعضاء المجلس، مشيرا إلى أمور أخرى ينبغي أخذها بعين الاعتبار عند مناقشة الوثيقة السكانية وهو عامل تعدد الزوجات والذي ليس موجودا في الوثيقة الدولية للسكان، حتى يمكن حساب معدلات الخصوبة بشكل أكثر دقة وكذلك أكثر عوامل الوفاة والتي تختلف من دولة لأخرى، ففي حين يعتبر ضحايا التسونامي من عوامل الوفاة التي تناقشها الوثيقة السكانية لبعض دول شرق آسيا التي تعاني من تلك الكوارث، تعتبر حوادث الطرق من العوامل التي لا يجب أن نغفل عنها عند مناقشة الوثيقة السكانية للمملكة، باعتبار أننا أكثر دولة على مستوى العالم في عدد ضحايا الحوادث المرورية، إذ يتجاوز عدد ضحايا تلك الحوادث خمسة آلاف شخص سنويا، وبالتالي لا بد من النظر إلى جميع العوامل المحيطة بمعدل الوفيات، أو تلك المحيطة بمعدل المواليد لمعرفة كافة الأبعاد المتعلقة بالوثيقة السكانية، وتحقيق التوازن المطلوب بينها وبين موارد الدولة، لتصب تلك الزيادة في صالح الدولة وفي صالح الخطط التنموية لها ولا تنقلب عبئا عليها. يذكر أن مجلس الشورى صوت مؤخرا على عدم الموافقة على وثيقة السياسة السكانية للمملكة كما وردت من الحكومة، وذلك بعد أن أعاد التصويت على توصية لجنة الإسكان والمياه والخدمات العامة وعلى نص الوثيقة الواردة من الحكومة، لرفعها إلى المقام السامي مرفقا بها ما تم بشأنها من دراسة، ومبينا فيها نتيجة التصويت. حيث صوت 66 من أعضاء المجلس لصالح عدم خفض الخصوبة، وهي التوصية التي طالبت لجنة الإسكان بها للموافقة على الوثيقة وعارضها 57، ثم صوت الأعضاء على مشروع الوثيقة وفق مقترح الحكومة المطالبة بخفض الخصوبة باستخدام المباعدة بين الولادات، فأيدها 60 عضوا بينما عارضها 64، وبذلك تعثر إقرار الوثيقة السكانية سواء بنسختها الحكومية أو نسخة لجنة الإسكان، رغم أن نسبة الأصوات المطالبة برفض خفض الخصوبة كانت أكثر لكن توصيات الشورى تحتاج 76 صوتا لتصبح قرارات، وهو ما تحتاجه أيضا توصية الحكومة في مشاريعها لدى المجلس.