كان الناس في الحارة إذا ما سمعوا شخصاً يبالغ في حديثه عن نفسه ويحاول تصوير إنجازاته المزعومة بأنها معجزات أو يدعي القيام ببطولات أو يقص عليهم حكايات لا تصدق تكون عادة من نسج خياله المريض، فإنهم يسخرون من فعائله الساذجة ويقول بعضهم لبعض: لقد ظل فلان البارحة يقلي السمك أمامنا وكل سمكة أكبر من أختها.. دون أن يرف له جفن. وتقول طرفة شعبية قديمة إن أحد الكذابين زعم أن والده لديه قدر كبيرة تتسع لطبخ مائة خروف دفعة واحدة فقال له كذاب آخر: إن عند أبي خروفاً إذا مشى في الحارة كان رأسه في أولها وذيله في الحارة المجاورة، فنسي الكذاب الأول كذبته حول قدر أبيه وسأل صاحبه: وأين سيطبخ أبوك خروفه وهو بهذا الحجم والطول؟ فرد عليه بقوله: في قدر أبيك! ويبدو أن الكذب والمبالغة هي جزء منه، خصلة مني بها بعض أبناء آدم من الزمن الأول حتى تاريخ كتابة هذه السطور، وبعضهم أمسى يتلذذ بكذبه ولا يرتاح ليلا إلا إذا «أفلت» مائة كذبة كبيرة ومتوسطة وصغيرة الحجم ولا يبالي إن كان من سمعه قد صدقه أم أنه قد أرسل له «مَرَشًّا» يليق به! وهناك من الكذابين من يدعي أن له علاقات واسعة بأصحاب النفوذ الإداري أو المالي، وحتى يؤكد لمن يسمعه يتحدث عن وجاهته المزعومة فإنه يتفق مع صاحب له على الاتصال به عندما يكون حوله عدد من أصدقائه ومعارفه فإذا قام صاحبه بالاتصال به حادثه على أنه أحد كبار الإداريين المسؤولين فيبادله الحديث ويسمع من حوله عبارات يوجهها لصديقه «الكبير» توحي بأن الكلفة مرفوعة بينهما تماماً، ثم يوصيه بترقية فلان وتعيين علان وفصل زعطان من الخدمة مختتماً مكالمته لصديقه المسؤول المزعوم بتقديم الشكر الجزيل له على أنه قام بتنفيذ كل ما طلبه منه أثناء المكالمة، فإذا وضع الهاتف تابع من طرف خفي نظرات الإعجاب التي تحيط به الصادرة ممن صدق ما سمعه منه من «خرط» غير مبالٍ بنظرات الاستغراب التي قد توجه ضده من الذين يعرفونه حق المعرفة وأنه مجرد «حَوَّات» صاجه حامٍ جداً يلقي به السمكة تلو السمكة ويظل يكذب حتى يصدق نفسه مع الأيام فيصبح عند الله والناس كذاباً. ولعل أسوأ الكذابين من يكون هدفه من أكاذيبه اصطياد من يصدقونه ويخدعون بقوله ويمنحونه ثقتهم المطلقة فإذا وصل بهم إلى هذا الحد أكل حقوقهم التي وضعوها لديه نتيجة تلك الثقة وقد لا يفيقون من غفلتهم إلا بعد فوات الأوان!