قال العقاد: تعود سائل أن يلقاني في طريقي، وكان مسكينا يبدو عليه التعب والحاجة إلى المعونة، وسمعت منه أشياء حسنة من الأقوال في وجوب الحسنة والإبداع في ربط الشفاعة بالسبب واليوم الذي يكون فيه، واختلف طريقي عن طريقه أيام الأربعاء والخميس والسبت، ولم أبرح المنزل يوم الجمعة كعادتي، ولم أبرحه إلا يوم الأحد لأذهب إلى دار الإذاعة وأعود منها بالسيارة. ثم صادفني يوما، فناولته نصيبه اليومي المعلوم منه، فقبض يده متجهما وقال: يا أستاذ أنت عليك ستة أيام، وهذا شهر رجب الحرام، وكانت مفاجأة مضحكة، فأخرجت المبلغ المطلوب مع الفوائد، ثم سألته مداعبا: ترى هل تحل الفائدة في شرعك على الأيام الحرام؟ ويرد المتسول ردا في منتهى البلاغة على عملاق الأدب قائلا: يمحق الله الربا ويربي الصدقات يا أستاذ! كلما سادت الثقافة والمعرفة بين جميع شرائح المجتمع تجلت لنا دروب الارتقاء في سبيل المجتمعات المتحضرة، وانحلت عقدة من العقد التي تعيق تقدمنا، لنقترب من المجتمع الإيجابي الذي يصنع سعادته وبهجته ويؤسس لرقيه وتحضره ويضمن لأفراده الحياة الكريمة. أحد الأساتذة في الفيزياء النووية يحدثنا عن الصدمة التي لا ينساها عندما سأله بواب العمارة التي كان يسكنها في أمريكا أن يشرح له النظرية النسبية؛ لأنه يرغب في فهمها ومعرفتها، وذلك عندما علم بتخصص أستاذنا في هذا المجال. وفي تراثنا العربي أن عبدالوهاب بن نصر المالكي عندما غادر بغداد ورحل منها متجها نحو معرة النعمان ثم مصر طلبا للمعيشة واليسار، وقد تبعه أهلها وشيعه كبراؤها وسألوه البقاء فأجابهم: لم آس على شيء أساي على مدينة (يقصد بغداد) يسألني فيها البقال والبزاز عن المسألة في الفقه والنحو. شيوع الثقافة وانتشار المعرفة بين طبقات المجتمع يجعل من هذا المجتمع منجما ثريا مكتنزا بالطاقات البشرية والأفكار الخلابة والعقول المبتكرة، تجعل منه مجتمعا قابلا للارتقاء يدفع بنفسه بطاقة ذاتية نحو الرقي، ويتناغم مع مسيرة المجتمع نحو الكرامة والرقي، سيكون مجتمعا واعيا يعرف ما ينفعه وما يضره وكيف يتفق وكيف يختلف ويتجاوب بإيقاع فاعل مع الأنظمة والقوانين التي تصنع من مجتمعه مجتمعا متقدما ومتحضرا، واليوم مع الأجهزة الذكية وتطبيقاتها وبرامج السوشل ميديا تجعلنا غير بعيدين عن هذه الرؤية، لكن إن اتجهت هذه الأدوات نحو الجهة التي تنفع المجتمع لا تضره.