وقد برز دور الشيخ ابن تيمية في معركة «شقحب» بين المسلمين من جند مصر والشام من جهة وجيش التتار من جهة أخرى. وكنا ذكرنا في الحلقة الأولى أن التتار كانوا أيضا مسلمين لكنهم باغون يريدون غزو دمشق من أجل النهب والسلب والفساد في الأرض. ولم أجد خيرا مما وصفت به المعركة من كتاب (ابن تيمية الفقيه المعذب) لعبد الرحمن الشرقاوي . قال رحمه الله : خرج عسكر الشام بقيادة نائب السلطان، وأقبل عسكر مصر، يقودهم السلطان، وإلى جانبه الخليفة والأميران، سلار، وبيبرس الجاشنكير، وهما أشد أمراء المماليك بأسا وسطوة، ودراية بفنون القتال، ومعهم أحدث الآلات الحربية، والقراء يتلون القرآن، ويرددون آيات الجهاد، مستثيرين حماسة الجند، وأصداء النفير العزاف، ودقات الطبول، وحمحمة الخيل، ترج الآفاق. ووقف ابن تيمية على صهوة جواده في ملابس عسكرية، يشد أزر الجميع. ولاحظ الشيخ شعور الجند بالإعياء والفتور .. كان الوقت رمضان، والحر شديدا، ووطأة الصيام وحمارة القيظ والعطش ترهق الأبدان، فوقف الشيخ يفتي الناس بوجوب الإفطار ليتقووا على الجهاد، فهذه هي السنة.. واتبع الشيخ سنة الرسول، فوقف على صهوة جواده ليراه الجميع، وأكل وشرب، وجال بين صفوف الجند يأكل ويشرب، ويأمرهم بالإفطار.. وأفطروا فشعروا بعد أن أكلوا وشربوا بالقوة تدب فيهم، ونشطوا إلى ملاقاة التتار.. التقى الجمعان في مكان يدعى «شقحب» وحارب ابن تيمية كفارس حاذق، وبهر فرسان المماليك ببسالته. وتباروا في ضرب العدو، وصوت الشيخ يمنحهم الثقة : الله أكبر .. إنكم لمنصورون. وريع التتار مما يرون. ما عهدوا هؤلاء يحاربون بمثل هذه الجسارة من قبل.. وأذهلتهم الآلات الحربية الحديثة وقوة فتكها .. واستمر القتال طوال اليوم الرابع من رمضان، وأدرك التتار أنهم سيلاقون هزيمة لم يعرفوها منذ «عين جالوت» .. فلجأوا إلى أحد التلال، واختفوا وراءه والليل يقبل، ليخفيهم عن العيون .. وأمر السلطان فدقت الطبول، وعزف النفير، وانتظم الجنود في الصفوف على ضوء المشاعل، وابن تيمية يتجول بينهم على فرسه يكشف لهم حيلة التتار، ويبين لهم حكم الشرع فيمن يفر، أو ينكص على عقبيه، مكررا : إنكم لمنصورون، إنكم لمنصورون .. وعلى شعاع الفجر قاد السلطان الجيوش إلى التل الذي اختفى وراءه العدو وأعملوا فيه السيوف .. وعندما اقترب العصر يئس التتار من القتال فلاذوا بالفرار، ولكن ابن تيمية صاح في العسكر : لا تتركوهم .. وطاردهم العسكر وقتلوا منهم مقتلة عظيمة وأسروا الباقين ولم ينج إلا القليل، وغنموا منهم مغانم كثيرة. السطر الأخير : والله لولا الله ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا فأنزلن سكينة علينا وثبت الأقدام إن لاقينا. فاكس: 6671094