شهدت المنطقة العربية في العصرين الأيوبي والمملوكي صراعاً مريراً بين المسلمين والصليبيين من جهة، وبين المسلمين والمغول من جهة أخرى، وحصلت معارك خلّدها التاريخ كمعركة «حطين» التي هُزم فيها الصليبيون على يد صلاح الدين، ومعركة «عين جالوت» التي انتهت بهزيمة جحافل المغول على يد المماليك، وبرز سلاطين كبار أمثال صلاح الدين، وبيبرس، وقلاوون، سطر لهم المؤرخون سيراً كانت بمثابة اعتراف بما قدموه من أعمال جليلة وبطولات، ومن هذه السير (تاريخ الملك الظاهر / بن شداد / 448 صفحة / تحقيق أحمد حطيط / سلسلة الذخائر / قصور الثقافة / القاهرة). عاش ابن شداد في ذلك العصر الذي بلغ فيه الصراع بين المسلمين والصليبيين والمغول الذروة لا سيما مع بدايات النصف الثاني من القرن السابع الهجري (الثالث عشر الميلادي)، وكانت هذه الفترة بمثابة الأيام العصيبة على المسلمين، إذ استطاع المغول بقيادة هولاكو، حفيد جنكيز خان، أن يستولوا على معظم أقاليم العالم الإسلامي المعروف في ذلك الحين، وقضوا على الدولة الخوارزمية وحطموا قلاع الإسماعيلية، وأسقطوا بغداد عاصمة الخلافة الإسلامية، وقتلوا الخليفة المستعصم العباسي، واستولوا على بلاد الشام بأسرها، ولم يبقَ أمامهم إلا مصر آخر معقل للإسلام في الشرق. وهال المسلمين ما حل بهم من نكبات، فرأوا في القتال ضد المغول ضرورة حتمية يتوقف عليها مصير ما تبقى لهم من وجود، فكانت موقعة عين جالوت بمثابة المعركة الفصل التي انتهت بهزيمة المغول وانحسارهم نهائياً عن بلاد الشام. وكانت عين جالوت أبعد نقطة في سورية وفلسطين باتجاه مصر. وكان ابن شداد شاهد عيان عليها يعرف دقائقها وتفاصيل أمورها، ولهذا كان لما يكتبه عنها قيمة تاريخية بالغة. وابن شداد هو عز الدين محمد بن علي بن إبراهيم بن شداد بن خليفة بن شداد بن إبراهيم بن شداد، أبو عبدالله الأنصاري الحلبي، مؤرخ جغرافي، ولد في حلب في السادس من ذي الحجة عام 613 ه/آذار 1217 م، وعاش فيها حتى كان الغزو المغولي لحلب عام 658 ه/نيسان 1260 م، لجأ إلى الديار المصرية، وانخرط في خدمة السلطان الملك الظاهر ببيبرس الذي أحسن وفادته وأكرمه وقدر ما يليق بمنزلته، إلى أن توفي في السابع عشر من صفر عام 684 ه/1285 م، ودفن بسفح المقطم. ومن مؤلفاته «الأعلاق الخطيرة في ذكر أمراء الشام والجزيرة»، «جنى الجنتين في أخبار الدولتين» و «القرعة الشدادية الحميرية» أو «تحفة الزمن في طُرف أهل اليمين»، وله كتاب آخر هو تتمة لكتاب الكامل في التاريخ لابن الأثير على حد ما ذكره ابن شداد نفسه. ونسبه لبني شداد أوجد التباساً بينه وبين معاصره القاضي بهاء الدين أبي المحاسن يوسف بن رافع بن تميم بن شداد، المؤرخ الحلبي المشهور الذي حظي بنفوذ وصيت لا يدانيه فيهما أحد من المؤرخين المعاصرين له، وقد استمد ذلك من موقعه القريب من السلطان صلاح الدين الكبير، وساهم أيضاً في ذلك الالتباس اشتراك المؤرخين في كتابة السيرة السلطانية، على رغم الزمن البعيد الذي يفصل بين الحقبة التي أرخ لها كل منهما. وقارئ كتاب «الأعلاق الخطيرة» – الجزء الثالث - تاريخ الجزيرة، يلحظ تلك المنزلة التي كانت لابن شداد عند الحكام، حيث يُحدثنا في كتابه هذا عن علاقاته المتينة بالملوك الأيوبيين وثقتهم به. وعندما حل المغول بميافارقين 657 ه/1259 م، كلفه السلطان بمرافقة عائلته من دمشق، إلى حلب، كما أوكل إليه مهمة التفاوض مع المغول. وتعبيراً عن إخلاصه لبيبرس وضع له كتابين: الأول في حياته، وهو الجزء الأول من الأعلاق «تاريخ حلب» أما الكتاب الثاني فهو السيرة. ويتناول هذا الجزء المتبقي من السيرة حياة السلطان في الفترة الواقعة ما بين 670 – 676 ه/ 1272 – 1278 م، وما تيسر من أمور دفنه وما وقف عن روحه، وينتهي بلائحة إجمالية لخصال السلطان وإنجازاته وأوصافه الحسنى. وقسم ابن شداد مؤلفه إلى 28 فصلاً، رتبت في شكل يسمح بتداخلها. وفي ثنايا فصول هذا الجزء يكون السلطان محور الحادثة التاريخية، فقد رصد ابن شداد تحركاته ونشاطاته المتعددة على الصعيدين الداخلي والخارجي. فعلى الصعيد الداخلي: يطلعنا ابن شداد كيف وطد بيبرس دعائم حكمه باستيلائه على آخر معاقل الإسماعيليين، ومعاقبته جيرانه النوبيين الذين كانوا يتحرشون برعاياه بين الحين والآخر، وعفوه عن أمراء كان قد سجنهم بسبب معارضتهم ومحاولاتهم الجادة للتدخل في شؤون الدولة والاستقواء عليها «الإفراج عن الدمياطي وسنجر الغنمي وبكتوت»، ومن تأديبه الولاة المتمردين «كما فعل مع ابن عجلون» ومن تودده لمن لا يسهل الإيقاع بهم من كبار الأمراء أمثال الأمير قلاوون الذي قربه منه باختياره ابنته زوجة لولده الملك السعيد، ومحاولاته الجادة لتدعيم زعامته للعالم الإسلامي المعروف في ذلك الحين، تلك الزعامة التي اكتسبها عبر مواقفه المشهودة في سبيل الإسلام، ألم يبادر إلى إحياء الخلافة الإسلامية في القاهرة عام 659 ه/1261 م، بعد سقوطها على يد هولاكو في بغداد؟ ألم يحرّم الخمور مراعاة منه لشعور المسلمين؟ وقد كان هذا التحريم السبب في شنق الطواشي صدر الباز، ألم يعاقب أقرب المقربين إليه بالسجن حتى الموت «الشيخ خضر» لكونه اقترف أعمالاً تدينها الشريعة والأخلاق؟ ألم يبادر إلى بناء الجوامع وترميمها «بناء جامع بدير الطين ظاهر مصر»؟ ألم يؤم مكةالمكرمة حاجاً مهتماً بكسوة كعبتها، مقيماً لها الاحتفالات السنوية التي تليق بالمناسبة؟ كل ذلك جعل السلطان الملك الظاهر في مرتبة أعلى من سلاطين البلاد الإسلامية الأخرى. ثم إن ابن شداد يطلعنا على جوانب أساسية أخرى في سياسة الرجل الداخلية وحكمته في إدارة شؤون البلاد، ومن ذلك أنه تراجع عن ضريبة فرضها عندما علم بامتعاض الرعية منها. كما أنه كان دائم السهر على أمن البلاد وسلامتها، فيحدثنا ابن شداد أن السلطان كان في حركة دائمة متنقلاً بين شطري المملكة، مرة في موكب ظاهر وثانية على خيل البريد وأخرى متخفياً ليطلع عن كثب على أحوال النواب والولاة، وبذلك ضمن استقرار مملكته. ويُطلعنا ابن شداد على هوايات بيبرس المختلفة، كلعبة القبق (لعبة لدى التتار تُشبه التنس)، ورحلات الصيد والتنزه في منطقة الأهرام والبحيرات، أما على الصعيد الخارجي فسلط ابن شداد أضواء كاشفة على سياسة بيبرس الخارجية التي تجلت في نوعين من النشاط: عسكري وديبلوماسي. ففي مجال النشاط العسكري: يطلعنا المؤرخ على المواجهة المريرة بين السلطان والمغول الذين ظلوا، على رغم هزيمتهم القاسية في «عين جالوت» يشكلون مصدر قلق للدولة المملوكية، بحيث لم تخلُ سنة ما بين 670 – 675 ه إلا وكان لهم نصيب في صنع أحداثها، لقد هاجموا حران عام 670 ه وخرّبوها ودمروها تدميراً كاملاً، لكن السلطان ظفر بهم في العام ذاته على نهر الفرات، ويحدثنا ابن شداد عما فعله بيبرس من صنع جسر عبر عليه العسكر ومن بسالة تجلت باقتحامه النهر متقدماً الجند... ثم عادوا عام 674 ه ونزلوا على قلعة البيرة لكنهم، نظراً للمقاومة الضارية التي لقوها من حامية القلعة، وبسبب وصول الأخبار بتوجه السلطان نحوهم، ولوا الأدبار راجعين من حيث أتوا. وصمم السلطان على غزو الروم ومواجهة المغول في عقر دارهم، وفي هذا المجال يخبرنا ابن شداد عن الاستعدادات الكبرى للظاهر بيبرس وخروجه من الديار المصرية عام 675 ه قاصداً بلاد الروم، ثم تحصل المعركة الفاصلة بين الفريقين في سهل (هوفي) من صحراء البلستاين، والتي انتهت بهزيمة المغول بعد مقتل الكثيرين منهم في ساحة القتال، الأمر الذي سهل دخول السلطان إلى قيصرية عاصمة بلاد الروم وجلوسه بالتالي على تختها وإطلاق الدعوات له في المآذن وضرب السكة باسمه. هذا على جبهة المغول، أما على بقية الجبهات فيطلعنا المؤرخ على حدثين مهمين: الأول هو غزوة سيس التي قام بها السلطان عام 673 ه ضد الأرمن والتي عاد منها محملاً بالغنائم الوافرة. والثاني تجلى بالحملة التي وجهها ضد بلاد النوبة، وأما في النشاط الديبلوماسي: فيستفاد من السيرة أن بيبرس لم يعتمد في رسم علاقاته الخارجية على القوة الضاربة فحسب، بل إنه استعمل سلاحاً لا يقل خطورة عن السلاح العسكري تمثل بإقامة العلاقات الديبلوماسية مع المغول من جهة ومع الفرنجة من جهة أخرى. بالنسبة للمغول عمل بيبرس على توسيع شقة الخلاف الذي كان مستحكماً فيما بينهم، فقد تحالف مع بركة خان زعيم القبيلة الذهبية أو مغول القفجاق الذي اعتنق الإسلام، فعزز علاقاته معه وبادله المبعوثين والهدايا، ولا شك في أن هذا الحلف كان موجهاً ضد عدوهما المشترك المتمثل بدولة إيلخانات فارس التي كان يحكمها هولاكو وأولاده. ويُشير ابن شداد إلى أن بيبرس اتبع في حربه مع المغول أساليب المكر والخداع بعيدة النظر، فهو في الوقت الذي عاهد فيه أبناء بركة خان على تحالفه معهم ضد أبغا لقاء تنازلهم عن جميع ما اغتصبه التتار من المسلمين، فإنه لم يتورع عن محاولة إقامة علاقات حميمة مع أبغا نفسه، فلم يتوانَ عن قبول وساطة سعى بها بعض أعوان هذا الأخير بل إنه أحسن استقبال رسل أبغا وأرسل إليه على الفور مبعوثين عله يحقق بوسائل السلم ما لم يسهل تحقيقه بالقوة. لكن هذه المحاولة التوفيقية باءت بالفشل. ويعود السبب في ذلك إلى تشدد السلطان، إذ إنه اشترط على أبغا أن يعيد له ما بيده من بلاد المسلمين. ولم يكفّ السلطان عن السعي لإضعاف أبغا، فعلى رغم أنه كان يعرف ما يدور في خلد البرواناة، نائب السلطنة في بلاد الروم، من طموح بالاستيلاء على الحكم والتفرد بالسلطة، فقد مالأه السلطان وبادله الرسائل مشجعاً إياه على اتخاذ المواقف المناهضة للمغول، باذلاً له الوعد بالدعم والمساعدة، ولم يكتفِ بذلك، بل إنه راسل سراً كبار الأمراء الروميين داعياً إياهم إلى الجهاد في سبيل الله محرضاً إياهم على التمرد والوقوف بوجه أبغا، وقد كان لتلك الرسائل صدى إيجابي لدى معظم هؤلاء، فوفد عليه العديد منهم وقاتلوا إلى جانبه ضد المغول، كما حالف السلطان جماعات التركمان بعد أن أغدق عليهم العطايا والوعود فانقلب هؤلاء بالتالي إلى ألد أعداء للمغول. أما بالنسبة للفرنج فيفهم من المخطوط أن السلطان أقام علاقات صداقة مع الفرنج بعامة والإيطاليين بخاصة، ويحدثنا ابن شداد عن العلاقة الطيبة التي كانت بين السلطان وصاحب إشبيلية والتي تجلت بتبادل المبعوثين المحملين بالهدايا السّنِيّة، وعن وفود من جنوا بين الحين والآخر، وكذلك رسل الإمبراطور البيزنطي كل ذلك جعل السلطان مهيب الجانب داخل المملكة وخارجها، فبدا وكأنه أقوى ملك بين ملوك عصره. ولم يكن الملك السعيد ناصر الدين محمد بركة خان، الذي خلف والده السلطان الملك الظاهر، أقل احتراماً وتكريماً لابن شداد، فقد جعله مستشاراً ووكيلاً له: استشاره في اختيار المكان المناسب لدفن والده، وكلفه بحل إشكالاته وشرائه. وبعد موته لازم ابن شداد أخاه الملك العادل سلامش، ثم الملك المنصور قلاوون، وذكر هؤلاء في «الأعلاق» ومدحهم مثنياً على حسن التفاتهم إليه وتكريمهم له. وفي كتابته لسيرة بيبرس اعتمد ابن شداد في الواقع على مشاهداته ومعلوماته الخاصة من دون اللجوء إلى روايات المؤرخين المختلفة، فاستطاع بهذه الطريقة أن يكشف لنا عن حوادث مهمة في حياة الملك الظاهر من النواحي السياسية والعسكرية والاجتماعية بالقدر الذي لا نجد له مثيلاً في المصادر التاريخية الأخرى. أما بالنسبة للحوادث التي لم تسمح له الظروف أن يكون فيها شاهد عيان، فكان يلجأ إلى نوع آخر من المصادر تمثل بما سمع وما قرأ، وفي هذا المجال، عندما يورد حادثة معينة يسمى المصدر الذي استقى منه، وعادة ما يكون هذا المصدر شخصاً بارزاً (قاضي قضاة، أو أحد كبار الموظفين أو أشخاصاً آخرين موثوقاً بهم...) مقدماً المعلومات التي استقاها بالعبارات: «حكى لي (فلان)»، «ما حكاه لي (فلان)»، «حكى لي من أثق به»، وفي حال شكه في إحدى الروايات حمل صاحبها وحده مسؤولية ما روي منهياً كلامه بعبارة: «والعهدة عليه في ما حكاه»، وأحياناً يبهم مصدره فيستهل كلامه بعبارة «ومن غرائب ما يُحكى...». أما الوثائق التي اعتمدها فلا يشير إليها صراحة باستثناء ما ورد في حديثه عن غزوة سيس، حيث يُفهم أنه استند في تأريخه لهذه الواقعة إلى رسالة بعثها إليه أحد الوزراء المشاركين في الحملة. وجارى ابن شداد ما كان شائعاً في عصره من أصول كتابية، فقد كان أسلوبه عادياً عمد فيه إلى السجع الذي كان يأتي أحياناً سهلاً وطبيعياً، وأحياناً أخرى متكلفاً. كما أن سيطرة المحسنات اللفظية على بعض الجمل جعلها جملاً غير طبيعية وعديمة المعنى. ونظراً لثقافته الواسعة فإنه كان أحياناً يطيل الحديث عن أمر ما مستطرداً إلى أمور أخرى لا تدخل في صميم الموضوع الأساسي، أما عن منهجه في كتابة السيرة فكانت الكتابة التاريخية في ديار الشام في القرن السابع الهجري تعتمد على أحد منهجين اثنين أو على كليهما، وهما التاريخ بحسب السنين (التاريخ الحولي) أو التاريخ بحسب الموضوعات والأحداث. وراعى ابن شداد هذين المنهجين في آن معاً، فقد كان السلطان موضوع تأريخه والحوادث مرتبة على المنهج الحولي. وهو في تأريخه هذا يذكر الحادثة مع الشهر واليوم الذي حدثت فيه، فكل سنة دون حوادثها وظل يعتمد هذا النمط حتى وفاة السلطان عام 676 ه. ويسر ابن شداد مهمة القارئ إذ وضع للأحداث عناوين تعلن عن مضمونها مختتماً كل سنة بذكر وفياتها من مشاهير العلماء والأمراء والأعيان. وكغيره من المؤرخين من المؤكد أن ابن شداد أغفل في السيرة، دور الرأي العام وتأثيره في اتخاذ القرار من قبل السلطان، على رغم أنه أشار بصورة عابرة إلى ذلك عندما تحدث عن تراجع السلطان عن فرض ضريبة سبق له أن قررها. وتبرز أهمية السيرة في أنها تسلط أضواء كاشفة على مرحلة تاريخية مهمة من حياة دولة المماليك البحرية في عهد الظاهر بيبرس، فهي تحتوي على معلومات تستحق الوقوف عندها والتأمل فيها، وهو ما فعله المؤرخون المعاصرون لابن شداد، فقد اعتمدها معظم هؤلاء مصدراً أميناً للأحداث التي جرت في تلك الحقبة.