صحيح أن الفترات الزمنية السابقة وانتهاء بالقرن الماضي كانت نهاية للحقبة الذهبية لكتابات رحلات الحج والحجيج. إلا أن المهم التأكيد بأن قسوة الزمان وصعوبة الوصول ومشقة التكلفة الذهنية والجسدية التي ينالها القادم إلى بيت الله الحرام. ليست وحدها المسوغ لكتابة رحلة الحج. ولكنها بالتأكيد الأذواق الأدبية والعلمية الرائجة آنذاك في التدوين. ومن هنا يطرح التساؤل ما سبب غياب رحلات الحجيج في هذا القرن؟ وهل كانت وسائل الاتصال والتواصل وقلة المسافة والزمن في الوصول للمشاعر والأماكن المقدسة اليوم سببا في إحجام الكتاب والأدباء والعلماء عن كتابة رحلاتهم إلى الحج؟ إن من المؤكد أن كتابات الرحالة عن الحج كانت ومازالت منهلا عذبا لمن أراد الاطلاع على أحوال مكة والمدينة والمشاعر والأماكن المقدسة خلال تلك الأزمنة التي دونت فيها تلك الرحلات. وإذا كان كتاب مصور في الحج يعد أول عمل توثيقي بالصورة ما بين عامي 1904-1908م فإن الأعمال الأدبية الأخرى التي سبقت والتي من أشهرها رحلة ابن بطوطة وابن جبير الأندلسي وغيرها كانت ومازالت تمثل الصورة الذهنية الأولى لكتابات رحلات الحج. لقد أثرت وسائل الاتصال المعاصرة على الرغبة في التدوين من قبل الحجاج خصوصا ممن يملكون زمام الكلمة وحسن البيان وضاعت العديد من الرحلات الهامة في السنوات الأخيرة مع ما يحصل خلالها من فوائد عظيمة لا حصر لها. ومن هنا فإن من المؤسف أن ظاهرة التدوين للرحلات خصوصا الحج بدأت تتلاشى مما يفقد قيمة علمية وأدبية. لقد أولى المغاربة اهتماما بالغا بالرحلات وقل عالم أو أديب وصل إلى رحلة الحج إلا ودونها وكتب عنها ومنها كتاب «تذكرة بالأخبار عن اتفاقات الأسفار» ومنها رحلة ابن رشيد أبي عبدالله محمد بن عمر بن رشيد الفهري السبتي ورحلة الوريثلاني وغيرهم. ولقد عني جمع من العلماء والباحثين مؤخرا بتتبع وجمع ما كتب من رحلات عن الحج. وكان من أميز ما سمعت ورأيت محاضرة ألقاها معالي الشيخ عبدالكريم الخضير عضو هيئة كبار العلماء سلط فيها الضوء على بعض كتب العلماء والأدباء من خلال ما تحويه مكتبته الزاخرة العامرة المليئة بالنوادر والجوامع وسمى هذه المحاضرة «رحلات أهل العلم في الحج». الشيخ عبدالكريم عالم ومحدث ومحقق وقارئ وناقد وفاحص. يعشق الكتاب ويهوى العلم والقراءة حتى أصبح من نوادر هذا الزمان معرفة بالكتب وأخبارها وكذلك قراءة وفحصا ومدارسة. إضافة إلى علمه الغزير في الحديث والفقه ومن جميع ملاطفاته في محاضرته أنه أتى على جمع من تلك الرحلات التي ذكرت بأسلوب علمي ماتع استوعب فيه القديم والجديد من رحلات الحج ومدوناته. كما أبدى جزاه الله خيرا بعض ملحوظاته العلمية في العقيدة والحديث والفقه على بعض ما ورد في تلك الرحلات. وكان من جميل تلك المحاضرة أن عني طلاب الشيخ بها وقاموا بتفريغها ونشرها في موقع الشيخ حفظه الله. إضافة إلى جهود بعض الأدباء كالأستاذ الأديب عبدالله بن حمد الحقيل الذي بادر إلى طباعة كتاب خاص أسماه «الحج في عيون الرحالة وكتابات الأدباء والمؤرخين» يعتبر جوهرة العقد في هذا الموضوع. قدم من خلاله استقصاء لجميع الكتب التي دونت في رحلات الحج وعرف بها جميعا. وهي إضافة مهمة للعمل الأدبي في مجال الرحلات. أرجو أن تعنى دارة الملك عبدالعزيز ووزارة الحج ورئاسة شؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي بتلك الدراسات وأن يتم تخصيص أقسام وإدارات وجهات تعنى بتلك الكتب القيمة ويتم نشرها ضمن مركز متخصص يجدر أن يقوم به مركز مكة التابع لدارة الملك عبدالعزيز.