اليوم الاثنين مطلع أسنان الأسبوع هنا.. المطر الذي تساقط أول النهار توقف الآن .. تقرر العائلة أن تتناول الطعام في مطعم «عربي» كانوا في شوق إلى قهوة عربية متقنة وشيء من الأكل العربي الأصيل.. يقع المطعم في جوف مدينة «كانسس ستي» أسفل بناية بنيت في أواخر الأربعينات اتخذت موقفي تحت شجرة وارفة ووضعت أكثر من دولار في عداد المواقف التابع للبلدة.. هذه هي المرة الأولى التي أحضر لهذا المطعم.. المبنى صغير متواضع بمقتنياته وأثاثه .. الطابق السفلي جعله صاحب هذا المكان مطعما أما الطابق الذي يليه وهو مفتوح على الفضاء فجعله مقهى، وفرة لمبات النيون تحيط باسم المطعم ولا تجعلك تخطئه يبدو أن المطعم لا يقدم الأطعمة والمشروبات فقط بل يؤمن العمالة أيضا هذا ما تقوله اليافطة المعلقة في مدخل المطعم.. من يريد سباكا أو بلاطا أو كهربائيا.. فعليه الاتصال بنا.. في المدخل عامل بسترة قصيرة يسوي كتلة لحم الشاورما ويديرها أمام النار ويلملم فتات اللحم من جانب الصينية المستديرة.. تفوح من الداخل رائحة الشواء والفلفل الأسود المطحون والكمون والزعتر وزيت الزيتون، مرت عشر دقائق أو أكثر بقليل تطل علينا سيدة أمريكية طويلة بيضاء لها شعر رمادي ملموم.. امرأة عجوز في وجهها بقايا لهيكل أجمل امرأة في زمانها.. قالت لنا وعلى شفتها ابتسامة خفيفة «هبي عيد» لفت انتباهي سلسلة ذهبية معلقة في رقبتها النحيلة مكتوب بخط عربي جميل اسمها.. تأخذنا من المدخل الذي تزينه أوانٍ نحاسية مطروقة ومرايا ذات إطار عريض خشبي منقوش وتابلوهات قديمة باهتة اللون، نمر بين الطاولات تختار لنا واحدة تطل على نافذة زجاجية طويلة تشرف على الشارع حيث الأعمدة الكهربائية بانحناءتها السريالية التي يسيل منها الضوء كالفضة فوق البنايات.. حييت القط النائم خلف النافذة الزجاجية الطويلة جعلت بصري يتنزه في المطعم وغرقت في التفاصيل من حولي.. بنادق قديمة مسمرة على الجدران بتقاطع.. صور لجِمال وأحصنة.. صور لوجوه حية تعود إلى أزمنة بعيدة.. خناجر فضية.. سجاجيد كشميرية معلقة.. أتحسس جيبي أتأكد أني أحضرت كبسولتي السكر وضغط الدم، يأتي صاحب المطعم مرحبا، إنه رجل أشيب يعرف كيف يعتني بنفسه.. إنسان هجر وطنه بعد أن فرضت عليه هناك شروط ظالمة من قِبل نظام انهار لم يكن يوما يؤمن بالإنسان.. تعود السيدة الأمريكية تقدم لنا القهوة والتمر وتفرد على الطاولة مجموعة من الأطباق الشرقية المختلفة.. تسألنا من أين أنتم !! وهي مستمرة في توزيع الأطباق على الطاولة نعلمها أننا من السعودية تلتفت إلينا.. كنت أعمل وزوجي في (جدة) في الخطوط السعودية وأنجبت طفلين هناك تكر الذاكرة كحبة ماس لم تحك.. تذكر لنا اسم المستشفى الذي أنجبت فيه الطفلين هناك، تشرح لنا بتودد أين كانت تعيش في جدة من كانوا أصدقاءها من العائلات السعودية.. المتاجر التي كانت تشتري منها أغراضها، متعة الغوص في البحر الأحمر.. مقهى النخيل.. البلد وبيوت البلد.. سوق العلوي.. كانت تتحدث بمشاعر جميلة كقارورة عبق انكسرت على الأرض فملأت المكان برائحتها وتثرثر بنقاء بركة سويسرية عن «جدة» تحاول أن تستعيد كل شيء جميل دفعة واحدة.. يغتال حديثها الشيق رجل مبعثر في الطاولة المجاورة أشهر إفلاسه في الذوق الإنساني فترك هاتفه الجوال ذا الرنة التي تشبه شيطانا يزعق، تستمر دون إجابة، تختفي السيدة لإجابة طلب زبون.. تعود لتوزع علينا أكواب شاي كبيرة دافئة بالنعناع تسألني وهي تطلق تنهيدة «هل حقيقة ما يحدث الآن في بلادكم.. ولماذا يتصرف البعض هناك ويحاولون أن يهدموا أمنهم بأيديهم.. ألا يفكرون بأولادهم بأهلهم بالناس الذين أحبوا تلك البلاد.. هل يودون أن ترجع البلاد إلى حروب قبلية ويصارع الجار جاره.. ألا يعلمون أن جمال المملكة في أمنها وأن المجتمع لا يكون بخير إلا عندما يكون آمِنا.. هل هم فعلا سعوديون!!».. قالتها وسكتت فجأة.. كنت كالملسوع أستمع إليها وهي تتحدث فقد شعرت بعاطفة قوية في كلامها.. افترسني ضيق مخيف وتكومت في داخل ضلوعي وزفرت بحرقة متفاديا النظر إليها وتمتمت في سري وأنا أكتفي بهزة صغيرة من رأسي وأنظر إلى السماء.. للأسف إن بعضهم سعوديون.. ولكن للبلاد ربا يحميها.. نعم للبلاد ربا يحميها.