في طبيعتي انني لا أحب السفر ليلاً وأفضّل السفر في أوقات الصباح الأولى، وذلك لسببين، أولهما أنني أكسب نهار اليوم الأول، وثانيهما وهو الأهم أنني أحب مصافحة وجه المدينة التي أزورها بخاصة إن كانت الزيارة الأولى. فأنا أؤمن بالحب من النظرة الأولى، والمدن كالإنسان، إما أن تعانقك بمحبة فتبادلها الحب... أو تعبس في وجهك وكأنها تطردك فتعود منها بخفّي حنين، ولا تفكر بزيارتها مرة ثانية. ولكن مع الأسف كان دخولي إلى الخرطوم ليلاً حيث لا تلتقط العين سوى أنوار الشوارع وأضواء السيارات وبعض المباني العالية وهذا لا يساعد على تكوين الإحساس الأول لتكون العلاقة بالمدينة حميمة منذ البدء. دخلت الخرطوم للمرة الاولى بدعوة من الأخ مجذوب عيدروس للمشاركة في احتفالية جائزة الأديب الكبير الطيب صالح العالمية للإبداع الكتابي، وكانت دعوة كريمة لبّيتها وأنا أعاني من انفلونزا حادة. وصلت مرهقة بعد سفر خمس ساعات متمنية أن أندفع إلى الفراش لأرتاح وبهذا خسرت حضور الحفلة الأولى المعدّة لضيوف الاحتفالية. المفاجأة الأولى غير السارة كانت في حجز غرفتي في الدور الثامن عشر وهو نوع من التكريم لي حتى يتسنى لي مشاهدة منظر النيل وما حوله من خضرة، لكن أوصالي ارتجفت فأنا أعاني من فوبيا الأماكن العالية، فرجوتهم أن ينزلوا بي إلى الدور الثاني أو الثالث، لكنني لم أحصل إلا على الدور الثامن ورضيت بالمقسوم، فما عليّ إلا أن أترك الستائر مسدلة. وكانت المعضلة الثانية أن وجبات الإفطار في الدور السادس عشر، وباب الأسانسير زجاجي يكشف الفضاء الواسع فكنت أشيح وجهي كي لا أشعر برعب الارتفاع. في اليوم الأول صباح الأربعاء توجهنا (الوفود المشاركة) إلى قاعة الافتتاح الكبرى لبدء نشاطات الاحتفالية وقبل دخولي إليها فاجأني أحد الصحافيين بسؤاله: - ما هو انطباعك عن الخرطوم؟ هل أعجبتك؟ قلت له: - يا عزيزي أنا لم أر حتى «بوز» الخرطوم، وسأكون منافقة للبلد وأهله لو أجبت على سؤالك وفي هذا نفاق لا أرضاه لي ولكم. عليك أن تمهلني لآخر يوم من الزيارة ثم تسألني. ومع الأسف أنه لم يسأل. وكنت أود أن يفعل لأعطيه انطباعاتي عن مدينتهم الهادئة الزاخرة بأنهارها الثلاثة، وبناسها الذين احتكروا اللون الأبيض في قلوبهم، فهم طيبون لأبعد مدى ومحبون للضيف وبخاصة ضيوف الكويت التي يحبونها ويحملون لها وفاءً خاصاً. لم ندخل تلك القاعة بعد ذلك إلا في اليوم الأخير حيث قدمت الجوائز للفائزين واستمعنا الى الكلمات الختامية ثم قامت فرقة الكورال النسائية بالغناء الجماعي لقصيدة وطنية بأصواتهن الناعمة وأطللن بأزيائهن الرائعة الألوان. لقاءات متبادلة امتدت الاحتفالية مدة يومين في قاعة الجائزة التي تحمل اسم الطيب صالح وكانت بمعدل ثلاث جلسات في اليوم. كان محور الأوراق المقدمة في هذه الدورة الثانية حول الرواية العربية والتحولات الاجتماعية وشارك فيها عدد كبير من الكتاب العرب، وكانت هناك جلسة خاصة للشهادات الشخصية التي أبدع فيها المشاركون خصوصاً أدباء وأديبات من السودان الذين – ومع الأسف – لم نكن نعرف إلا القليل منهم وكانت الزيارة فرصة للتعرف الى المثقفين والمثقفات وقد زوّدونا ببعض نتاجهم من شعر وقصة ورواية. عادة تبدأ كل نشاط ثقافي بإلقاء الكلمات لبعض المسؤولين وغالباً ما تصدر بعض الفوضى لا سيما في الصفوف الأخيرة من القاعة: فهذا يتكلم وهذا لا يستقر في مكانه وهنا صوت هاتف يرن أو ضحكة ترتفع، لكن المدهش وخلال اليومين من الاحتفالية انّ الهدوء كان سائداً، مما يدل على أن الشعب السوداني يحترم القاعة وندوتها. ولفتنا ايضاً ذلك الحضور الكبير، فلم يفرغ كرسي في القاعة خلال أيام الاحتفالية. وأكثر ما يثير الإعجاب هو ذلك الاهتمام بالاستماع، فالسودانيون يستمعون بكل حواسهم، وهذا ما يجعلهم يتفاعلون مع كل ما تطرحه المنصّة بدليل تلك المداخلات القيّمة التي يعقّب أصحابها على البحوث ويضيفون إليها. لم تقتصر الزيارة على الجلسات داخل القاعة ولم يرهقنا السودانيون بل أفرحونا وأبهجوا قلوبنا بأوقات ترفيهية. ففي أمسية جميلة دعانا وزير الثقافة إلى عشاء سخيّ في الهواء الطلق تخللته نماذج من الرقص المتنوّع الذي يمثّل مناطق من السودان، واستمتعنا بالغناء السوداني الذي تصاحبه الموسيقى بآلات ذات إيقاعات مثيرة تحرّك السواكن، وتطرب من كان في قلبه حزن أو أوجاع قديمة. في اليوم التالي أعدّوا لنا رحلة نهرية رائعة في مركب جميل جال بنا مساحة من النيل حيث شاهدنا ملتقى النهر الأزرق بالنهر الأبيض وشاهدنا مناظر خلابة لطبيعة خضراء بكر. هنا فقط أريد أن أشير الى تقصير بسيط في إعداد الطريق الموصل إلى المركب، فكانت الصعوبة في أن نقطع المسافة (التي لم تكن قصيرة) على أرض ترابية ضيقة غير مستوية ومخيفة لمن «تجاوز» عمر الشباب. كان المركب الجميل يتهادى بنا فوق سطح النيل الذي يتلون بلون السماء تارة وبلون الخضرة المحيطة به تارة أخرى. بين فاصل من الندوات أصرّت الأخت مياده بشرى على أن تصحبنا أنا والكاتبة شيرين أبو النجا إلى بيتها لنتذوق الفطور السوداني... وآه ما كان أشهاه من فطور، أكلات خاصة لا نعرفها مثل: العصيدة والمُلاح والسخينة، وغيرها مثل الفول والفلافل والأجبان، أما الصنف الحلو فكان مديدة بالحلبة، ومديدة بالدخن، وأعترف بأنني أكلت بشراهة متحدّية مرض السكري. مقاه شعبية رحلة أخرى استمتعت بها كانت بدعوة من الفنان التشكيلي راشد دياب مع الفنانة التشكيلية منى وسعدنا بجولة شاملة في مدينة أم درمان الوادعة ببيوتها الطينية التي أعادتني الى زمن مدينتي الكويت قبل النفط وبالبساطة التي كانت سائدة في ذلك العمر الجميل. في لحظة احتجت الى فنجان قهوة فتصورت أن راشد سيأخذنا إلى مقهى حديث مغلق فكانت المفاجأة أن أوقفنا في الطريق واختار مكاناً تحت ظلال الأشجار حيث تجلس النساء أمام عدّتهن بما يشبه المقاهي الشعبية ليقدمن للعابرين المشروبات الباردة والحارة وكان أشهى شاي شربته. ما يفرح القلب في تلك المشاوير البسيطة أنني أتحرر من مدنيّة العصر التي كبلتنا بقوانينها المعقّدة، فنعيش البساطة التي افتقدناها ولا يعود يهمنا شكل المقعد الذي نجلس عليه، ولا نخاف من شرب ماء غير معقّم في قنينة مغلقة. فقد جاءتنا المرأة الرشيقة بدورق من البلاستيك مملوء بالثلج. كذلك لم نهتم إن كانت كؤوس الشاي وفناجين القهوة مغسولة. إنها لحظة الحرية النادرة التي لا تخضعنا للخوف من شيء، فنشرب هنيئاً (فلن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا). وبعد استراحة في أجواء كان نسيمها ينعش الروح أخذنا الفنان إلى الأسواق الشعبية القديمة – وهذا غاية غرامي. أزقة ضيقة مملوءة بالبضائع أغلبها صناعات محلية من الجلود. والحق أنني شعرت بزمني يرتدّ بي إلى الطفولة عندما كنت أتجول في أسواق الكويت القديمة . وهذا ما ضاعف سعادتي. بعد الجولة كانت تنتظرني مفاجأة رائعة، فقد اصطحبنا الفنان إلى محترفه الفني المدهش. المكان جميل محاط بالأشجار التي تصدر منها تغاريد الطيور وزقزقتها، وبالنباتات من كل نوع في أصص مختلفة وأرض الحوش مزينة بقطع الزجاج وتتناثر فيه المنحوتات والتحف القديمة، وكل ركن لا يشبه الآخر، وكل زاوية لها خصوصية لا تخترقها أشكال الحداثة التي تعطل لحظة الانسجام مع الروعة الموزعة حتى على أطراف الشبابيك والبلكونات الكثيرة. ولم تكن الطبيعة التي خلقها الله وحدها الجميلة، كان الجمال في محتوى المحترف من لوحات ومنحوتات لفنانين وجدوا رحابة صدر من الفنان راشد ليرسموا وينحتوا ويعرضوا أعمالهم، وقد أعدّ حجرات لاستقبال أي فنان زائر يريد الاختلاء بنفسه وممارسة هواياته. هذا المحترف الكبير الذي تحظى به السودان على يد فنانها الكبير أجدر به أن يكون وجهة للزائرين ولضيوف الخرطوم من عرب وأجانب. كانت جولة تغسل الروح وتحلّق بي في أجواء روائية وسعادة غضة بلا شوائب ولا نكد. بعد تلك الجولة أعلنت الجوع، فهو إذا انقض عليّ كان «هازم اللذات ومفرق الجماعات». كان علينا أن نكمل الجولة إلى بيت الفنان لنزور مرسمه حيث تتخلّق الإبداعات، لكنني طلبت منه أن نأكل أولاً، فلا طاقة لي على الجوع، وطلبت أن أتذوق سمك النيل. دخلنا مطعماً صغيراً عبارة عن خيمة تتخلل أشعة الشمس فتحاتها وتتوزع فيها مقاعد خشبية واطئة وتتوسط كل مجموعة طاولة مستديرة توضع عليها صينية الطعام. طلبنا الأكل وكانت المفاجأة أننا سننتظر حتى انتهاء الصلاة. و «يا غريب كون أديب»... تأدبت وانتظرت لكنني كدت أدوخ من الجوع حتى سمحوا بتقديم الأكل، سمك مشوي، سمك مقلي، وسلطات منوعة، الله! الله! حين يشبع الإنسان يحمد ربه ويلعن الجوع الكافر الذي لو كان رجلاً لقتلناه. قمنا بعد ذلك بزيارة بيت الفنان الذي لا يقل جمالاً وخضرة وزينة عن محترفه، وهنا عالم آخر... تدهشك اللوحات الجميلة المرتاحة على الجدران وتشدّك الرائحة المنبعثة من الألوان والفراشي الرطبة والجافة والتي لا تزال تنتظر. خرجت من البيت كما خرجت من المحترف مسحورة، شبعانة، ملتحفة دفء المكان وروحه الملتهبة بالإبداع. في نهاية الزيارة، غادرت وأنا آسفة لأنني لم أفكر قبل اليوم بزيارة السودان. فكم أحببت ناسه المفعمة قلوبهم بالبياض، الكرماء، الطيبين لأبعد مدى، البسطاء بلا عقد، المبتسمين دائماً، المتواضعين بلا تكلف، الحريصين على راحة ضيوفهم، والترحيب بهم بشتى الطرق بما في ذلك أجهزة الإعلام من صحافة وإذاعة وتلفزيون. شعب لم أر شبيهاً له في الطيبة إلا شعب أسوان التي زرتها ذات يوم وعلقت محبتها في القلب. وما يبهج القلب هو زيّ المرأة السوداني، فلا عباءات سوداء ولا نقابات تحجب الوجه الذي لم يحرّمه ديننا الإسلامي، الزيّ رائع بألوانه الزاهية وهو حجاب يكسو الجسد من الرأس إلى القدمين بكل احتشام وأناقة، ويا ليتنا نقلدهن في أزيائهن الفرحة. السودان بلد الخيرات الكثيرة... فهنا أكثر من نيل، نيل أزرق، نيل أبيض، ونيل أسمر، وهنا تربة خصبة. وهنا شعب لا يخلو من طموح وتطلع لتنمية بلده. وأتصور أنه لولا أزمات الحروب لكانت خيرات السودان تغطي حاجة الوطن العربي أجمع ونتمنى لهذا البلد كل ازدهار وسلام. والشعب السوداني شعب مثقف... قارئ ومتابع للأدب العربي ولديهم مترجمون وفنانون وروائيون وشعراء يستحقون أن يستضافوا ليشاركوا في النشاطات الثقافية العربية. أخيراً، أقول إنني سعيدة بهذه الزيارة القصيرة. وسلام عليك يا شعب السودان الطيب الأصيل.