تعتبر الصفة أو ما يطلق عليها دكة الأغوات مكانا في مؤخرة المسجد النبوي الشريف، في الركن الشمالي الشرقي منه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم أمر به فظلل بجريد النخل، وأطلق عليه اسم «الصفة» أو «الظلة». وقد أعدت الصفة لنزول الغرباء العزاب من المهاجرين والوافدين الذين لا مأوى لهم ولا أهل فكان يقل عددهم حينا، ويكثر أحيانا، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- كثيرا ما يجالسهم، ويأنس بهم، ويناديهم إلى طعامه، ويشركهم في شرابه. وكان الصحابة رضي الله عنهم يأخذ الواحد منهم الاثنين والثلاثة من أهل الصفة فيطعمهم في بيته، كما كانوا يأتون بأقناء الرطب ويعلقونها في السقف لأهل الصفة حتى يأكلوا منها، فذهب المنافقون ليفعلوا مثل فعلهم رياء فصاروا يأتون بأقناء الحشف والرطب الرديء، فأنزل الله تعالى فيهم قوله: «ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه..» (البقرة: آية: 267)، وفيهم نزل قوله تعالى: «للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضربا في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافا وما تنفقوا من خير فإن الله به عليم» (البقرة: آية 273). وكان جل عمل أهل الصفة تعلم القرآن والأحكام الشرعية من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أو ممن يأمره رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بذلك، فإذا جاءت غزوة خرج القادر منهم للجهاد فيها. ومن أشهر أهل الصفة المنقطعين فيها أبو هريرة -رضي الله- عنه وهذا الانقطاع مكنه من تلقي الكثير من أحاديث الرسول -صلى الله عليه وسلم- كما قال عن نفسه عندما سمع الناس يقولون: أكثر أبو هريرة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: «أما أنتم يا معشر المهاجرين فقد شغلتكم التجارة، وأما أنتم يا معشر الأنصار فقد شغلتكم الحقول والمزارع، وأما أنا فقد لازمت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على ملء بطني فكنت أتعلم من العلم، فكيف تقولون: أكثر أبو هريرة.. أكثر أبو هريرة؟». وقد صور لنا أبو هريرة -رضي الله عنه- ما كان أهل الصفة يصبرون عليه من الجوع، وشدة الحال في قصة وقعت له في يوم من الأيام: قال أبو هريرة -رضي الله عنه- إنه كان يمضي عليه اليوم واليومان لم يذق طعاما، وكان يشد الحجر على بطنه من الجوع، وجلس يوما في طريق الذين يخرجون من المسجد لعل أحدا منهم يكشف ما به من الجوع، فمر عليه الصديق فسأله أبو هريرة عن معنى آية من كتاب الله، وقال: ما سألته إلا لكي ينتبه لحالي، فمر ولم ينتبه بعد أن أجابه عن معنى الآية، ثم مر عمر بن الخطاب كذلك، فلما مر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نظر إلى أبي هريرة وابتسم حين رآه، وعرف ما في وجهه من الجوع، ثم قال: يا أبا هريرة. فقال: أبو هريرة: لبيك يا رسول الله. قال: الحق. فتبعه ودخل معه في بيته، فوجد النبي -صلى الله عليه وسلم- في بيته لبنا في قدح، فقال: من أين هذا اللبن؟ فقالوا: أهداه لك فلان، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: يا أبا هريرة، فقال: لبيك يا رسول الله، فقال: اذهب فادع أهل الصفة، فقال أبو هريرة في نفسه: وما يغني هذا اللبن عن أهل الصفة، وضعف أمله في إصابة ما يتقوى به من ذلك اللبن. فلما دعاهم أمره النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يباشر سقيهم فضعف أمله أكثر، لأن ساقي القوم آخرهم شربا فسقى الجميع، وأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يعطي كل واحد ليشرب حتى يشبع، وكان أبو هريرة يقول في نفسه: ليته لم يأمرني بفعل ذلك حتى أشرب ولو الشيء اليسير، وظل يعطيهم حتى شبع أهل الصفة جميعا، وكان عددهم في هذه الحادثة يبلغ ثلاثمائة رجل حتى وصل اللبن إلى أبي هريرة -رضي الله عنه-، ولم ينقص شيء، فتبسم النبي -صلى الله عليه وسلم- وقال: يا أبا هريرة بقيت أنا وأنت فاقعد واشرب، فقعد أبو هريرة وشرب حتى روي. يذكر أن مكان الصفة في المسجد الشريف ظل ماثلا، يحدثنا عن مدى المعاناة التي لقيها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه الكرام في سبيل الدعوة الغراء، إلى أن جاءت توسعة الوليد بن عبدالملك، فتغير مكانها إلى ما يعرف اليوم بدكة الأغوات حيث بلغت التوسعة ذلك المكان.