لم أقف في تاريخ مسجد النبي صلّى الله عليه وسلّم بالمدينةالمنورة الشريفة على خبر يفيد بوجود السقيا والسقاية في مسجده صلّى الله عليه وسلّم على عهد المبارك. وإنما ورد أنه كان هناك مشروع لإطعام الفقراء التمور في المسجد النبوي الشريف. وكان العذق من النخل أو القنو منه بل والأقناء وعليها الرطب أو التمور تعلق على حبال يشد طرفاها بين السواري في المسجد النبوي المبارك على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فيأكل منها الفقراء والضعفاء وأصحاب الصفة رضي الله عنهم لما روى الإمام البخاري وغيره وهذا اللفظ للإمام الترمذي في سننه عن البراء رضي الله عنه، قال: قوله سبحانه وتعالى (ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون) الآية. نزلت فينا معشر الأنصار، كنا أصحاب نخل، فكان الرجل يأتي من نخله على قدر كثرته وقلته. وكان الرجل يأتي بالقنو والقنوين فيعلقه في المسجد، وكان أهل الصفة ليس لهم طعام. فكان أحدهم إذا جاع أتى القنو فضربه بعصاه، فيسقط من البسر والتمر، فيأكل. وكان ناس ممن لا يرغب في الخير، يأتي الرجل بالقنو فيه الشبص والحشف وبالقنو قد انكسر فيعلقه. فأنزل الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه) قالوا: لو أن أحدكم أهدي إليه مثل ما أعطاه لم يأخذه إلا على إغماض وحياء. قال: فكنا بعد ذلك يأتي أحدثنا بصالح ما عنده.. الحديث. وكان المسؤول عن تعليقها وإطعامها هو سيدنا معاذ بن جبل الأنصاري رضي الله عنه كما ذكرها الإمام السمهودي وغيره. وأما السقاية فلم تكن في هذه الفترة، ولكنها نشأت في سنة تسع وتسعين ومائة من الهجرة المباركة في خلافة أمير المؤمنين هارون الرشيد رحمه الله تعالى. وذلك لما رواه الإمام السيد نورالدين السمهودي في تاريخه وفاء الوفا: عن الإمام محمد بن الحسن بن زبالة: أنه كان في مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: تسع عشرة سقاية في سنة تسع وتسعين ومائة من الهجرة الشريفة. فكان منها: ثلاث عشرة سقاية أنشأتها المرأة الصالحة السيدة خالصة مولاة أمير المؤمنين هارون الرشيد رحمهم الله جميعًا وأنها أول من أحدثت أعمال السقاية رحمها الله رحمة الأبرار في مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وكان منها ثلاث سقايات أجراها الأمير يزيد البربري مولى أمير المؤمنين. وسقاية واحدة أجراها أمير المدينة الشريفة آنذاك الأمير أبي البحتري وهب بن وهب رحمه الله الذي كان على إمارة المدينة الشريفة سنة 193 من الهجرة. ومنها سقاية واحدة أجرتها السيدة شجن أم ولد أمير المؤمنين هارون الرشيد رحمها الله. ومنها: سقاية السيدة سلسبيل أم ولد جعفر بن أبي جعفر رحمها الله. فاستمرت السقاية على هذا النحو حتى جمع تلك السواقي فيما يظهر لي في سقاية واحدة شيخ خدام الحرم النبوي الشريف أو شيخ الأغوات في حدود القرن السادس من الهجرة الشريفة. وجعلها مجتمعة في وسط المسجد النبوي الشريف، وبنى لها بركة كبيرة بالآجر والجص والخشب، وجلب إليها الماء من العين، وجعلها نافورة، وجعل للبركة درجًا ينزل إليها للشرب والاستسقاء منها كما ذكرها العلامة البدر أبو محمد عبدالله بن فرحون في كتابه نصيحة المشاور وتعزية المجاور: حيث قال: ولقد كان في وسط المسجد سقاية يحمل إليها الماء من العين، بناها شيخ الخدام في ذلك الوقت، ووقف عليها أوقافا من ماله، وكانت متقدمة على النخل تقديرها خمسة عشر ذراعا في مثلها. وجعل في وسطها مصرفا للماء مرخما (أي مجاري وبالوعات) ونصب فيها مواجير للماء وأزيارًا، ودوارق وأكوازًا، وحجرها بالخشب والجريد، وجعل لها غلقًا من حديد. واستمرت السنين العديدة، فكثر الشر فيها والتزاحم عندها، وصار يدخلها من يتوضأ فيها، فربما يزيل فيها الأذى (أي يتبول هناك) من استقرب المدى، ثم تعدى الحال وزاد شرها، فلما غلبت مفسدتها على مصلحتها أزيلت عن اجتماع من القاضي شرف الدين الأميوطي والشيخ ظهير الدين. انتهى كلامه.. ثم ذكر الإمام السمهودي في تاريخه الوفا: أنه ليس في زمانه منها شيء أي في أواخر القرن التاسع من الهجرة الشريفة. وذكر أن السقاية تتم في المسجد النبوي الشريف عبر الدوارق المسبلة، فيشربها الناس في أوقات محدودة إلا في خزانة الخدام (أي في غرفة الأغوات) فلا يزال بها ماء للشرب ثم إنه لما قام السلطان الملك الأشرف قايتباي رحمه الله ببناء مدرسة بين باب الرحمة وباب السلام جعل فيها سبيلا للماء للشرب مما يلي باب الرحمة، وجعل له شباكًا على المسجد النبوي الشريف. انتهى بمعناه.. وكان هناك أشخاص بل وأسر وعوائل من أهل المدينة تشتهر باختصاصها بهذه الخدمة الجليلة دون غيرهم من أبناء المدينةالمنورة. حيث قال العلامة البدر الشيخ عبدالله بن فرحون في تاريخه: وكان ممن أدركته من السقايين بالحرم الشريف (أي في القرن الثامن من الهجرة): الشيخ محمد السقا المعروف بأبي الحسن، وهو جد أولاد الشيخ محمد الكازروني لأمهم، كان رحمه الله: يملأ المسجد الشريف بالدوارق، ويضعها من باب الرحمة إلى باب النساء، ويجعل في أعنق الدوارق سلاسل يقيدها بها لكيلا تسرق ولا يغير مكانها، وعلمت أنه لم يكن يأخذ على ذلك أجره. انتهى. أيًا كانت هذه الخدمة يقوم بها لوجه الله تعالى ولم يكن يأخذ على ذلك أجرة أو مقابل. وذكر العلامة السيد جعفر البرزنجي في تاريخه نزهة الناظرين في تاريخ مسجد سيد الأولين والآخرين: أسماء بعض الأسر التي كانت تقوم على أعمال السقاية في مسجد سيدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما قد سبق ذكره عن العلامة ابن فرحون غير أنه لم ينقل صورة عن السقاية في زمانه كيف كانت. وذكر العلامة الشيخ عبدالرحمن الأنصاري في كتابه تحفة المحبين: بيت (عناية) ثم قال: وأما حسن فنشأ على طريقة والده وصار في وجاق النوبجتية وتوفي سنة 1170. وأعقب من الأولاد عبدالرحمان الموجود اليوم، وصار شيخ السقائين بحرم النبي الأمين، وله أولاد موجودون اليوم. انتهى. وهذا يدل على أن هذه المهنة الجليلة أصبحت مهمة مهنية رسمية تتبع لرئيس أو شيخ ينظم أمرها، ويرتب وضعها. ثم لم تزل السقاية في مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في تطوير مستمر، وتنويع مضطرد حتى أدركت أنا السقايين الذين كانوا يقومون بتعبئة المياه في دوارق فخارية صغيرة تكفي لشرب شخص واحد، ويرصونها بزقاق البقيع في حارة الأغوات بوسط بيوت مخصوصة هناك. ومع قرب صلاة العصر وربما بعد المغرب أيضا يقومون بنقلها إلى المسجد النبوي الشريف محملة بأياديهم، وكل واحد منهم يحمل عشرة أو تسعة في كل مرة. فيحمل بيده اليمنى خمسة دوارق وبشماله خمسة أو أربعة فيما أذكر، ويجعل في إبطه واحدًا بحيث تحمل كل إصبع منه دورقًا واحدًا ثم يأتي بها إلى الحرم فينشرها في أرجائه، ويضع تحت كل سارية وعمود منه عشرات الدوارق داخل طاولات مستطيلة مقعرة أو حياض خشبية مغلفة من داخلها بصفائح من الحديد، فتظل الدوارق فيها حتى يتنفد ما بداخلها من المياه. فكانت تظل إلى صلاة العشاء أحيانًا ولم تنفد. وكانت الأعداد تتضاعف في شهر رمضان المبارك فيشرب منها المسلمون. وكان قلّما يوجد ماء للشرب في المسجد النبوي الشريف في أوقات الصباح ولا حتى في أوقات الظهر إلا من السبل الخاصة فيما أذكر. وكانت هناك سبايل تقررها جهات خيرية وتتولى مسؤولية تبريدها وسقايتها للناس أشخاص صالحون من المجاورين وغيرهم، فيقومون بتعبئة المياه ودوارق ثم يصبون الماء في أوان صغيرة من النحاس الكولندي ومغاريف معتادة وقد تكون الأواني النحاسية محلاة بنقوش من آيات القرآن الكريم، فيقعد الناس عنده فيسقيهم منها ويشربون، ثم يعود ويملؤها مرة أخرى حتى ينفد ما عنده من المياه الباردة التي بحوزته وهكذا. وكان هناك سقاءون مخصوصون في الحرم النبوي الشريف يظهرون بهيئة معينة من العمائم الغبانية الصفر، يحملون على أكتافهم دوارق كبيرة ذات أعناق طويلة يسقون بها الناس، ولاسيما في الروضة الشريفة. ولكن كان هذا بأجرة عاجلة. ولم يزل الأمر كذلك حتى تولت حكومة خادم الحرمين الشريفين ممثلة في إدارة شؤون المسجد النبوي الشريف أعمال السقاية في مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وتحملت دورها وذلك منذ خمس وعشرين سنة فيما أذكر أو أكثر من ذلك. ومنذ أن تحملت الدولة هذه المهمة تطورت أعمال السقاية في مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى حد بعيد على كل المستويات. في النظافة، في البرودة، في الوفرة ما لم يكن في الحسبان. فزودت أروقة هذا المسجد الطاهر المبارك بمئات من حافظات المياه المبردة، وجرى لهذه الحافظات تأمين كاسات بلاستيكية تستعمل لمرة واحدة فقط فيظل الماء باردًا ومتوفرًا طوال النهار على الدوام في هذه البردات والترامس، وكلما فرغت حافظة يتم تعبئتها مباشرة وهكذا. ووظفت الدولة المئات من العاملين لهذه الوظيفة الجليلة، وهى سقيا مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ناهيك عن الموظفين الإداريين والعاملين في مجال النظافة والكناسة والصيانة، وأعمال تلميع الزخارف النحاسية من القواعد والتيجان والشبابيك والأبواب، والثريات والمصابيح وخلافها. واستمر الحال على ذلك من حسن الى أحسن حتى قيض الله تبارك وتعالى خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز رحمه الله للقيام بعمل جليل وخير جزيل، فأمر رحمه الله تعالى: أن تكون السقاية في مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من ماء زمزم أسوة بالمسجد الحرام. وهو أمر لم يسبقه إليه فيه أحد قبله، ويعد ذلك من أوليات الملك فهد رحمه الله وأعماله المشكورة ومحاسنه المبرورة، ويعتبر هذا نقلة تاريخية وقفزة نوعية في تاريخ السقاية في مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فتم بموجبه تشغيل قافلات يومية خاصة لنقل ماء زمزم من مكة شرفها الله إلى المدينةالمنورة تعمل ليلا ونهارا لجلب ماء زمزم عبر شاحنات المياه وبكميات وافرة جدًّا، فيتم تفريغه في صهاريج مخصصة ثم يبرد في ثلاجات عملاقة كهربائية خصصت لهذا الغرض، فيعبأ في تلك الحافظات والمبرادات الصغيرة ثم يوضع مبردًا وغير مبرد للشاربين في أرجاء مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وما زالت السقاية جارية بعون الله تعالى وتوفيقه على هذا المنوال حتى الآن. إذ قام بهذه المسيرة المباركة خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود وسمو ولي عهده المحبوب الأمير سلمان بن عبدالعزيز حفظهما الله واعتنيا به جزاهما عن هذا العمل خيرًا. وقد سطرت هذه المنقبة لخادم الحرمين الشريفين الملك فهد رحمه الله ولخادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز حفظه الله في كتابي المسمى التعريف بتاريخ ومعالم المسجد النبوي الشريف بشيء من الإيجاز.. وهذه نبذة يسيرة من تاريخ السقاية في مسجد سيد الورى صلوات الله وسلامه عليه تترى كتبتها مستمدًا من الله تبارك وتعالى التوفيق والسداد. ولخادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود أولية تاريخية أيضًا في فتح أبواب مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليلًا. وسوف أكتب عن هذا التاريخ لاحقًا بإذن الله تعالى وتوفيقه.