مكة المكرمة شرفها الله هي أطهر بقعة على وجه الأرض، ولا يدخلها داخل إلا ويشعر بالأمان والطمأنينة يسريان في كيانه، ويتمنى أن لا يفارقها أبدا. وسبق لي قبل خمسة أعوام أن حظيت بعمرة أرجو أن يقبلها الله مني كحجة، ذهبت إليها في شهر رمضان في العشر الأواخر منه، بعد أن لبست لباس الإحرام من جدة. وحجزت غرفة في فندق مجاور، غير أن تلك الغرفة لم أمكث بها غير دقائق؛ لأنني ما إن توضأت فيها حتى ذهبت مهرولا للحرم للحاق بصلاة الظهر، وبعد ذلك طفت وسعيت، واستطعت ولله الحمد أن أقبل الحجر الأسود بعد معافرة شديدة كاد يكسر فيها أحد أسناني من جراء ضربة كوع من أحدهم في فمي، وبعدها اتخذت مكانا قصيا أتلو فيه ما تيسر لي من القرآن الكريم رغم الآلام المبرحة لسني، إلى أن حانت صلاة العصر التي أديتها، ثم عاودت القراءة من جديد، وقبل غروب الشمس بربع ساعة ذهبت إلى الفندق لأقضي حاجتي وأتوضأ، ثم أعود مهرولا، وما إن دخلت من باب السلام حتى قال المؤذن: الله أكبر، وأفطرت على (الأسودين) الماء والتمر، جاء بهما بعض المحسنين، وبعد الصلاة أخذت أيضا مكانا قصيا أقرأ فيه إلى أن حانت صلاة العشاء، فأديتها على أكمل وجه، وأتبعتها بالتراويح، ودبت أثناءها يا سبحان الله راحة ونشاطا في جميع جوانحي واتبعتها بالشفع والوتر، وبعد ذلك خرجت لأتناول لقيمات قليلة في الأسواق القريبة، وبعد أن جددت وضوئي عدت وصعدت للطابق العلوي وبدأت بترتيل القرآن الكريم فترة طويلة من الوقت، وعندما شاهدت عشرات من المتبطحين نياما داهمني النعاس قليلا، فسلكت مسلكهم وغفوت متمددا ساعة من الوقت تقريبا إلى أن حانت صلاة القيام، فجددت وضوئي وصليت، ثم ذهبت إلى السوق وتسحرت بلبن زبادي وعدة زيتونات نصفها أخضر ونصفها أسود، ورجعت أقرأ إلى صلاة الفجر، وحمدت ربي الذي مكنني من أداء الفروض الخمسة كلها في الحرم، ثم ذهبت إلى الفندق ودفعت حساب الغرفة، ثم ركبت سيارتي عائدا إلى جدة. وبهذه المناسبة، يقول أحد المؤرخين القدماء عن أهل مكة ويصفهم بأن لهم ظرفا ونظافة في الملابس، وأكثر لباسهم البياض، فترى ثيابهم أبدا ناصعة ساطعة، ويستعملون الطيب كثيرا ويكتحلون ويكثرون السواك بعيدان الأراك الأخضر، ونساء مكة فائقات الحسن بارعات الجمال، ذوات صلاح وعفاف، وهن يكثرن التطيب حتى إن إحداهن لتبيت طاوية وتشتري بقوتها طيبا، وهن يقصدن الطواف بالبيت في كل ليلة جمعة، فيأتين في أحسن زي، وتغلب على الحرم رائحة طيبهن وتذهب المرأة منهن فيبقى أثر الطيب بعد ذهابها عبقا انتهى. ولم يكذب الشاعر الشعبي عندما قال: أهل مكة حمام، وأهل المدينة قماري شرف الله المدينتين المباركتين، وما أسعد ساكنيهما بسكناهما. [email protected]