كما اهتمت «عكاظ» في وقت من الأوقات بالوضع في اليمن الشقيق، ووقفت عليه من الداخل والتقت فيه بجميع الأطراف... .. وكما أولت نفس الاهتمام والتغطية للوضع في سوريا وذهبت إلى الداخل السوري، وعاشت مختلف صور المأساة هناك.. .. وكما دخلت أيضا إلى العمق الليبي، وقابلت معظم القيادات السياسية والعسكرية المؤثرة في صنع الحدث هناك.. ..فإن «عكاظ»، وبنفس الدوافع المهنية لم تتردد في اقتحام الداخل العراقي لنقل الصورة الكاملة عما جرى ويجري بكل تفاصيله الدقيقة، إبرازا للحقيقة وتجسيدا للواقع المعاش. وها نحن نطالعكم ابتداء من هذا اليوم بسلسلة من الأعمال الصحفية الحية التي قمنا بها، ولا تسألونا عن رحلة العذاب والمعاناة التي واجهتنا، فذلك كله بعض متاعب المهنة من أجلكم أنتم، كي تعيشوا معنا الحدث بكل تفاصيله من خلال سلسلة التغطيات الحية التي قام بها مدير مكتبنا في بيروت ومحررة أخرى. فإلى مطار أربيل توجهنا من بيروت، حاملين أقلامنا وعدستنا، ساعة ونصف هو زمن الرحلة بالطائرة إلى إقليم كردستان العراق، مطار حديث يواجهك في عاصمة إقليم أربيل، يرسم أمامك ومنذ اللحظة الأولى في بلاد الكرد أنك أمام حلم دولة يسعى لها أبناء هذه الأرض، فكل ما فيها يرمز إلى الانفصال وهو المشهد الذي لا يفارق الزائر للإقليم، فقد رفرف العلم العراقي في بعض المؤسسات الرسمية جنبا إلى جنب مع علم الإقليم. «أربيل» هي المحطة الضرورية وصولا إلى «الموصل»، فكل الطرقات إلى عاصمة الشمال العراقي باتت مقفلة، ووحدها «أربيل» هي المتنفس للهاربين من بلاد أم الربيعين كما يحلو لأهل الموصل أن يطلقوا عليها وللراغبين في رصد الأحداث فيها واقتحام خطوط النار.. الذهاب إلى الموصل عندما يسمعه أهل إقليم كردستان مقترنا بالاستغراب، وهناك جملة تسمعها من الجميع «ذهاب الصحافة إلى الموصل خطير جدا».. فيما البشمركة والمسؤولون فيها يؤكدون ذلك أيضا: «لا يمكننا ضمان سلامتكم في الموصل». ثم يردفون بالقول: «آخر نقطة عسكرية للبشمركة هي في كورجلي وتبعد عن مواقع تنظيم داعش 200 متر فقط، بعدها لا ضمانات أمنية لكم، كما أن داعش تعتقل كل شخص غير عراقي على حواجزها». منذ الصباح الباكر حزمنا أغراضنا واضعين نصب أعيننا كل الاحتمالات، لكن الهدف كان هو الوصول إلى الموصل، «ساعتان» هو زمن الوصول من أربيل إلى الموصل وتحديدا الموقع الأخير لقوات البشمركة المواجه لتنظيم داعش، مسافة تقطع فيها سهولا وجبالا فوقها لا يوجد ما يوحي بالحياة، فيما تحتها ثروات وثروات، نسأل عنها مرافقنا الكردي فيقول: «النفط والذهب موجودان في كل بقعة من هذه الأرض ويا ليته لم يكن موجودا لقد جلب لنا اللعنة والحقد والكراهية، فليأخذوه وليمنحونا السلام». وصلنا إلى موقع قوات «زريفاني» في بلدة كورجلي، و«زريفاني» تعني باللغة الكردية «القوات الخاصة»، حيث استقبلنا قائد الموقع المقدم فارهاد الروش، فسألناه عن الفرقة ومهامها فشرح بأن «زريفاني هي القوات الخاصة المجوقلة وأوامرها تأتي فقط ومباشرة من الرئيس مسعود بارزاني، هي قوات النخبة ومهامها خاصة وخطيرة، ونحن هنا لأننا بمواجهة يومية ومنذ سقوط الموصل وخروج الجيش العراقي ودخول المسلحين وبخاصة مقاتلي داعش، لقد سقط لنا عدد من الضباط والعناصر بفعل اعتداءاتهم ولكن أوامر الرئيس بارزاني لنا هي الدفاع عن سكان هذه المنطقة بكل انتماءاتهم وقومياتهم، ونحن نقوم بذلك، فكل ليلة هناك محاولة تسلل من قبل مقاتلي داعش إلى مواقعنا ونعمل على صدهم، وقادرون على اقتحام مواقعهم، لكن الأوامر تلزمنا بأن ندافع عن هذه المنطقة فقط والتي نعتبرها جزءا من إقليم كردستان». انتقلنا مع المقدم فارهاد الروش إلى الخندق الأمامي الذي تعرض في الليلة السابقة لهجوم من داعش، وهو خندق يمتد لأكثر من 300 متر، ويبعد عن سواتر داعش الترابية 200 متر، وما أن وصلنا إلى أول الخندق المحفور حتى تعرض الموقع لرشقات القنص، فصرخ المقدم فارهاد طالبا من الجميع الاحتماء، ومشددا علينا التزام الوقوف خلف أكياس الرمل الموضوعة. رصاص القنص تحول إلى اشتباك بسرعة بين البشمركة وداعش، الذين كانوا كما ظهر يرصدون أي تحرك في مواقع «قوات زريفاني» تصاعدت حدة الاشتباكات لتستعمل فيها «قذائف الهاون» الذي أكد لنا أحد ضباط البشمركة أنهم يستعملونها لمنع أي تسلل من داعش بحيث يصنعون بالهاون وهو عيار 60 ملم، حزاما دفاعيا من النار. اتصالات كثيفة عبر الجهاز كان يتلقاها المقدم فارهاد كانت كفيلة بوقف الاشتباك والعمل على سحبنا من الموقع الأمامي بشكل آمن إلى الموقع المقابل للبشمركة. الملازم في البشمركة «كاك مور» الذي كان مسؤولا عن إخراجنا من منطقة الاشتباك قال لنا: «الصحافة هي العدو الأول لداعش، عندما يرون كاميرا صحفية يصابون بالجنون ويبدأون بإطلاق النار، هم لا يريدون أن يخرج للإعلام أي شيء، سياستهم تقوم على تجهيل الجميع وبخاصة الرأي العام ليفعلوا ما يشاؤون». بعد عودة الهدوء إلى الموقع يعود المقدم «فارهاد الروش» ليروي لنا ما حصل ليلة السقوط فقال: «في السادس من حزيران / يونيو، بدأنا نلاحظ أن هناك تحركا غير مألوف للجيش العراقي التابع للمالكي، عمليات نقل وتبديل غير اعتيادية وفجأة، عند غروب العاشر من الشهر لم نر سوى عناصر وضباط الجيش العراقي يغادرون مواقعهم باتجاه إقليم كردستان، لقد تركوا امتعتهم وسلاحهم ولاذوا بالفرار، ووصل إلى موقعنا المئات منهم، وعندما كنا نسألهم عما يحصل قالوا لنا: داعش تريد قتلنا وضباطنا تركونا وحدنا، نهاية مأساوية شاهدناها بأم العين لانسحاب الجيش العراقي». ثم يضيف «في هذه اللحظات أتتنا أوامر سريعة من القيادة وتحديدا من الرئيس بارزاني بضرورة حماية هذه المنطقة وقراها وأهلها بكل تنوعهم الطائفي والقومي، فهذه المنطقة فيها سنة وشيعة وكرد ومسيح، وهذه ما حصل، حاول تنظيم داعش أن يمد سيطرته إلى هنا لكننا خضنا معارك شرسة معه وتمكنا من صده وهو يحاول كما رأيتم تكرار التقدم كل يوم». ويختم فارهاد قائلا: «على داعش أن تدرك ان قوات البشمركة ليسوا كجيش المالكي، مقاتل البشمركة ليس موظفا، بل هو مقاتل شرس يدافع عن أرضه وأهله ولديه قضية يموت من أجلها، فيما جيش المالكي انسحب، لأنه لا ينتمي إلى الموصل فمعظمهم من عناصر الجيش التي كانت تتكون من الشيعة ومن مناطق الجنوب ولا تملك خبرات قتالية، البشمركة لن يسمحوا لأحد بتجاوز حدود الإقليم وأظن أن قيادات المسلحين في الجهة المقابلة يدركون ذلك ويعلمون مدى إصرارنا وعزيمتنا على القتال». كلام المقدم فارهاد روش لا يختلف عن حديث المقدم غفور أحمد مسؤول المنطقة الغربية في المواجهة مع داعش، الذي حدثنا فقال: «الوضع صعب وخطير للغاية، العراق يمر بأدق مراحل حياته خطورة وصعوبة، هناك ظلم قد وقع على الناس، وهناك إرهابيون يحاولون مصادرة حقوق الناس، وهناك نظام لا يريد إلا مصالحه الشخصية، نحن قرارنا في إقليم كردستان هو الدفاع عن أرضنا وأهلنا، لقد تعرضنا لظلم تاريخي ولا نريد أن يتكرر هذا الظلم، أرض الإقليم لن نسمح لداعش أن تدوسها ولن نسمح لهم أن يقتلوا أهلنا، فرجالنا كلهم مصممون على المواجهة والقتال حتى آخر نقطة دم فيهم، نحن لا نريد التوغل في أي منطقة في الموصل ولا نريد احتلال أي مدينة، نحن فقط ندافع عن إقليم كردستان وعن قرانا وأهلنا، وعندما نتحدث عن إقليم كردستان، نحن لا نتحدث عن الكردي فقط، بل عن كل من يسكن ويلجأ إلى الإقليم، هناك قرية شيعية في الموصل نزح أهلها جميعا إلى الإقليم هربا من داعش أو من عمليات الثأر من قبل البعض الذين تعرضوا للظلم من جنود المالكي، لقد استقبلناهم وقدمنا كل العون لهم والأمان، فالمسألة إنسانية أكثر مما هي سياسية». وختم المقدم غفور: «ما حصل في الموصل ليس بالأمر العادي، أعتقد أن مستقبلا مخيفا يكتب في العراق، لا نعرف كيف سيكون شكل هذا المستقبل لكن ما نعرفه إننا كبشمركة وكإقليم كردستان لن نتخل عن أرضنا وسندافع عنها بوجه كل معتد وبوجه كل من يفكر بالقدوم إلى هنا، فهذه الأرض لنا ووحدنا قادرون على حمايتها، لقد رأينا الكثير من الجيوش التي أتت وانهزمت، صدام جيشه ترك هذه الأرض وهرب عندما أتى الجيش الأمريكي، وها هو المالكي وجيشه يهربون عندما أتت داعش والمسلحون، وحدنا نحن البشمركة تصدينا لهم، وحدنا قدمنا الشهداء والدماء من أجل حريتنا وكرامتنا، في إقليم كردستان الكل مستعد للقتال من أجل الحرية والكرامة، نساء ورجالا وشيوخا، كلنا على مبدأ واحد وعلى قلب واحد وفي نفس الوقت كلنا نتعاطف مع إخوتنا العراقيين وقد استقبلناهم بكل إنسانية وهذه كانت أوامر القيادة لنا منذ اللحظة الأولى، فهذه أخلاقنا وهذه هي شيمنا».