إبراهيم عبدالمجيد لم يسمح أفلاطون للشعراء بالوجود في جمهوريته أو مدينته الفاضلة. سمح فقط لنوع منهم هم شعراء الملاحم الكبرى التي يكون موضوعها آلهة الأوليمب بما تغرسه في النفوس من قيم كالحق والخير والجمال. لكن الشعراء الذين يكتبون عما حولهم من عالم الحس لا قيمة لهم عنده فهذا العالم ناقص بدوره لأنه نسخة مشوهة أو ناقصة من عالم المثل -الكمال- الذي لا يراه أحد وكل شيء يطمح إليه. وبالطبع يدخل تحت هؤلاء كتاب المسرح اليوناني ذلك الوقت لأنهم في رأيه يحاكون العالم من حولهم. وكلمة المحاكاة في النقد الأدبي والفلسفة وعلم الجمال كلمة شائعة وكثيرا ما تكون مضلله أو يساء فهمها. فحتى الآن تشاهد أناسا محترمة تطلع في التليفزيون وتقول لك إن الأدب والفن محاكاة للواقع. وإذا فتح عليهم الله يقولون انعكاس. ولا يعرفون أن رجلا مثل أفلاطون أول من كتب عن الفن والجمال يرى محاكاة الواقع عملا ناقصا كما قلت لأن الواقع نفسه محاكاة ناقصة لعالم المثل. كما أن الأدب باعتباره انعكاسا للواقع أمر عفى عليه الزمن لأن الواقع يتغير وتختلف فيه وجهات النظر وما بقي من الآداب والفنون هو ما علا عن الواقع وابتدع لنفسه واقعا مجازيا شخصياته لن تجدها حولك كاملة وإن وجدت أثرا لها فهي في العمل الأدبي أو الفني تحلق في آفاق أعلى من الجمال. وفي كل الأحوال هي لا تقودك لعمل شيء أكثر مما تجعل منك كائنا سويا. القراءة لا تبعث علي اكتمال الشخصية فقط بل كثيرا ما تكون علاجا نفسيا بالمناسبة وهناك من يستخدمها في ذلك الآن في العالم. ما يهمني من أمر أفلاطون هو طرده للشعراء أو نوع منهم وعدم فتح أبواب المدينة الفاضلة لهم.. ورغم ذلك فأفلاطون جعل الشعر في المرتبة الثانية بعد الموسيقى التي جعلها فوق كل الفنون. وطبعا يقصد الشعر الملحمي المعني بالبطولات وآلهة الأوليمب كما ذكرت. ونظر للشعر الملحمي باعتباره شعرا تعليميا. ولكن ليس بالمعنى السيئ للكلمة التي تتداول باعتبارها تعني الآراء المباشرة والنصائح. لم يكن أفلاطون يقصد ذلك فما تتعلمه من الإلياذة من فضائل أو قوة أوحق أو خير لا يقوله لك أبدا هوميروس لكن تدركه بنفسك من أخطاء الأبطال وخطاياهم أيضا. والمقارنة بين الموسيقى والشعر بسيطة جدا فالشعر تراه وأنت تقرأه. الآداب والفنون كلها في الحقيقة تراها باستثناء الموسيقى ومن ثم تعلو الموسيقى باعتبارها أعلى مثل في التجريد في الفنون. بناء في الهواء. والبناء هو غاية الفنون الجميلة الباقية كلها رغم أنه فيها ليس في الهواء. لكن قيمة البناء أنه يحملك كما الموسيقى إلى الهواء وإن لم يأت منه. من هنا يأتي الفرق بين خطوط تمثال واقعي شبيه صاحبه وتمثال آخر شبيه روح صاحبه حتي لو اعوجت خيوطه ومقاييسه. أفلاطون في موضوع النحت كان تقليديا رغم معرفته بالرياضة فهو يرى أن الخطوط المستقيمة والدائرية وسائر خطوط الهندسة التقليدية هي الأجمل لأنها الأكثر اكتمالا لكن تصور أنك تتفرج على تمثال لرجل في عاصفة يرتدي بالطو خطوطه ليس فيها أي انكسارات من أثر الريح هل تشعر بالعاصفة؟ أو سياسي أو قائد أو مفكر ساهم في تغيير أمته يقف ينظر أمامه ولا يتطلع الى أعلى أو الى بعيد هل يكون له معنى؟ وتستطيع أن تمشي مع ذلك في كل الفنون حتى السينما. ومن أجمل مشاهد السينما في التاريخ مثلا مشهد سلالم أوديسا في فيلم المدرعة بوتومكين الصامت التي يهرب فيها الثوار في الميناء في ثورة 1905 في روسيا من بطش الحرس القيصري وكيف يطول مشهد الأقدام الجارية على السلالم رغم أنهم يهربون مما يعني أن إيزنشتاين المخرج العبقري يريد أن ينقل إليك لحظة هروبهم وكيف كانت طويلة جدا على مشاعرهم أمام الموت المتربص بهم. فالفن الحقيقي هو من يضرب بكل المواضعات التقريرية عرض الحائط. وهذا يعيدني إلي الشعراء كمثل تاريخي على الأدباء. فالشعر أسبق على النثر وكان يوما بالنسبة لنا ديوان العرب قبل أن تتطور الرواية وتقفز وسيظل له سحره حتى عند الروائيين الممتازين الذي يسعون لشعرية الرواية من بنائها وليس من اللغة الرصينة أو الغنائية أو العامرة بالمحسنات البلاغية! أقول إن من رآهم أفلاطون يحاكون الواقع ومن ثم هم أقل درجة ممن يحاكون المثل هم نوعان الآن في الحقيقة. الأول من حاولوا أيضا أن يجعلوا من الواقع داخل العمل عالما من المثل! ليس بالمعنى الأخلاقي من فضلك لكن بمعنى تجاوز هذا الواقع المحيط والذي هو عادة ركيك. ومن نقلوا أو حاكوا أو عكسوا الواقع كما هو. والحقيقة ان هذا النوع الثاني لا مكان له في تاريخ الأدب رغم أن التليفزيونات تفتح شاشاتها لشعرائه يراهم المشاهد وهو يتناول طعامه أو يتناول طعامه بعد أن يراهم وهو يفعل شيئا آخر. من حاولوا أن يجعلوا من الواقع داخل العمل عالما من المثل! بمعنى تجاوز هذا الواقع المحيط والذي هو عادة ركيك إلى عالم من الجمال هم غير متوافقين مع ما حولهم. النوع الثاني وهم أنصاف الموهوبين متوافقون مع المجتمع حتى وهم ينتقدون ما حولهم فهم لا يقدمون صورا تحملك إلى الفضاء لكن يقدمون أخبارا ووجهات نظر. وبعيدا عن متوسطي الموهبة فبقية الشعراء من فتح لهم أفلاطون مدينته أو لم يفتح لا يمكن أن يستقروا فيها لأنهم من الأصل لا عالم مثالي لهم. فالذين يحاكون عالم المثل بالملاحم غير راضين والذين يحاكون الواقع بالارتفاع به غير راضين. لن يجد أفلاطون إلا متوسطي الموهبة يوافقون على الدخول. ومؤكد أنه سيطردهم بعد أن يكتشف خطأه بأن سمح لهم حتى لو كان مضطرا ليكون في مدينته شعراء. للشعراء الحقيقيين دائما مدن أخرى. ibrahimabdelmeguid@hotmail. com