بعد تعيين الظاهرة السياسية المراد تحليلها ،وتوفير المستلزمات النظرية والمعرفية لعملية التحليل.. تبدأ الخطوات العملية التي ينبغي أن يقوم بها المحلل السياسي.. وهذه الخطوات كالآتي : - الملاحظة الدقيقة للظاهرة والحدث السياسي المراد تحليله.. لأن الظواهر السياسية سريعة التغير وشديدة التشابك ويرتبط بعضها بالبعض الآخر .. ومن لا تتوفر لديه اليقظة التامة والمتابعة الدقيقة فلن يستطيع تحليل عناصر الظاهرة السياسية تحليلا سليما.. والسبب يرجع إلى أن أغلب الأحداث السياسية، التي تجري في العالم، تمارس معها عمليات التضليل والإغواء وتحريف عقول الناس ، وتشويه تصوراتهم ونظرتهم إلى حركة الأحداث السياسية .. لذلك فالمحلل المتميز هو الذي يلاحق الحدث ،ويتعرف على تفصيلاته ،ويتابع مسيرته بدقة ووعي تام .. إن للتدريب والممارسة دوراً كبيراً في بلورة الرؤى وصياغة المواقف لأن (رأي الرجل على قدر تجربته) والمحلل السياسي المتميز هو الذي لا يقف خارج الأحداث أو حركة الفعل السياسي وإنما هو الذي يتابع حركة الأحداث من أجل بناء رؤية سياسية دقيقة وسليمة لواقعه الخاص والعام. - معرفة الظرف السياسي الذي وقع فيه الحدث ..إذ من الضروري أن يلاحظ المحلل المحيط الذي وقع الحدث في أجوائه.. ولذلك لأن لبنية المحيط ومشكلاته دورا وتأثيرا كبيرا في حركة الحدث السياسي .. ولا يمكن التحدث برؤية صائبة عن الحدث ، بدون ملاحظة الظروف السياسية والاقتصادية التي وقع فيها الحدث .. فلا يمكن مثلا فصل عمل بطولي يقوم به أبناء فلسطينالمحتلة، عن الظروف السياسية الخانقة التي يعيشها أبناء فلسطين تحت الاحتلال الإسرائيلي الحاقد .. - التعرف على عناصر التأثير في الحدث (محليا – إقليميا – دولياً ) فمثلا لا يمكن للمحلل أن يدرك حقيقة الأحداث المتلاحقة في منطقة الشرق الأوسط دون معرفة العناصر والقوى ذات التأثير في المعادلة السياسية في المنطقة.. وقد تجد في الكثير من الأحداث السياسية، أن لا مصلحة حقيقية من ورائها بالنسبة إلى منفذها المباشر ، ولكنها من مصلحة القوة الإقليمية أو الدولية المرتبطة بها .. فدراما الأحداث السياسية التي تجري حاليا في منطقة الشرق الأوسط كلها بيد القوى الدولية والإقليمية ذات التأثير المباشر على المعادلة الحاكمة في هذه المنطقة.. لذلك حين التحليل ،لا يمكن بأي حال من الأحوال إغفال التأثير الإقليمي والدولي لمجمل الأحداث.. لأنها تسير وفق توازنات محلية وإقليمية ودولية دقيقة ..وكل قوة تريد التأثير في الأحداث بما يوافق مصالحها وتطلعاتها.. والرابح في الأخير هو الذي يمتلك أوراق اللعبة أكثر ، والقادر على بلورتها وتفعيلها وتوظيفها في ميدان العمل والممارسة السياسية .. ولكي تكتمل صورة عناصر التأثير في ذهن المحلل، لابد له أيضا من التعرف على المصالح السياسية والاقتصادية للأطراف المرتبطة بالحدث.. فإن معرفة المصالح توفر جهدا كبيرا للمحلل ..لأن المصالح هي الدافع المباشر في كثير من الأحداث السياسية التي تجري في العالم .. فالقوات الأجنبية التي احتلت العراق ،لم تأت لكي تدافع عن مصلحة شعوب المنطقة أو قيم الحرية والعدل والمساواة ،وإنما جاءت من أجل الدفاع عن مصالحهم واستراتيجياتهم في المنطقة .. - التعرف على منطقة الحدث : لا شك أن لجغرافية الحدث تأثيرا مباشرا في حركة الظاهرة السياسية.. والمحلل الذي يجهل الخريطة الجغرافية التي وقع فيها الحدث، لا يمكنه بأي شكل من الأشكال، أن يكون ذا تحليل علمي دقيق .. فأزمة خليج الخنازير التي جرت في الستينيات من القرن الماضي بين الولاياتالمتحدةالأمريكية وكوبا، لا يمكن فصلها عن الموقع الجغرافي والحدود المشتركة لكلا البلدين .. كما أن النظام السياسي والاقتصادي في بولندا في العصر الحديث ،كان دائم التأثر بالاتحاد السوفياتي السابق للقرب الجغرافي .. فالتعرف على موقع الحدث وطبيعته ،ونقاط القوة والضعف فيه، مدخل ضروري لفهم مغزى وطبيعة الحدث السياسي، وخطوة لابد منها في عملية التحليل السياسي . - الربط بين الأحداث والظواهر السياسية لإظهار ومعرفة مراحل تطور الحدث : حيث إن أغلب الأحداث السياسية ليست منفصلة عن نظائرها، وإنما هي امتداد لمجموعة أحداث أو رد فعل لظاهرة سياسية ما .. لذلك فإن الربط بين الأحداث والظواهر السياسية ،يكشف للمحلل عن خبايا الحدث ومغازيه وأهدافه .. ومن هنا جاء في المأثور ( استدل على ما لم يكن، بما قد كان، فإن الأمور أشباه ).. فالأحداث السياسية تكشف عن أحداث سياسية أخرى .. فالأحداث التي تجري على الأرض الأفغانية، وتأثير القوى الخارجية في الساحة الأفغانية، ليست بمعزل عن عوامل القبول المختلفة المتوفرة في أفغانستان وغيرها من بلدان العالم الثالث .. كما أن الربط بين أحداث الغزو الأمريكي لفيتنام والخسائر الفادحة التي منيت بها القوات الأمريكية، هو الذي أوجد نظرية الحرب النيابية والقوة الإقليمية البديلة كخط دفاعي عن المصالح الأمريكية في الخارج .. - طرح الأسئلة وعلامات الاستفهام :وهذه الخطوة هي عبارة عن أسلوب استقرائي يوصل المحلل السياسي إلى الاحتمال الأقرب إلى الحقيقة والواقع .. فلكي يصل المحلل إلى جوهر الحدث السياسي وغايته، لابد أن يطرح على نفسه أو على أهل الخبرة والاختصاص مجموعة من الأسئلة والاستفسارات التي تقرب بدورها الحدث إلى عقل المحلل، وتعرفه بآراء الآخرين ونظرتهم المتنوعة عن الحدث السياسي .. فطرح الأسئلة هو أسلوب منطقي، يوصل المرء إلى العلم والحقيقة .. ومن المفيد في هذا الإطار أن المحلل السياسي ،حينما يريد أن ينضج رأيه ونظرته السياسية عن طريق مساءلة أهل الخبرة والاختصاص، من الضروري أن يناقشهم وهو ذو رأي ونظرة ..لا لكي يتوقف عندهم ويصر على رأيه ،وإنما لكي تتوفر لديه القاعدة الضرورية لكل مناقشة موضوعية ،ولكي يتعرف على وجهات نظر الآخرين ونظرتهم عن رأيه وتحليله .. ويبقى السؤال وسيلة لا غنى عنها للحصول على العلم والحقيقة والمعرفة وجاء في المأثور ( القلوب أقفال ومفاتيحها السؤال).. - التحليل والتركيب : بمعنى أن المحلل السياسي يقسم الظاهرة السياسية أو الحدث السياسي، إلى أقسام، ومن ثم يخطو في التحليل خطوات منظمة بحيث تكون كل نقطة بالنسبة إلى التي تليها بمثابة المقدمة من النتيجة ..ويقوم بتحليل الظاهرة السياسية (موضوع البحث والتحليل)، إلى أبسط عناصرها وأدق تفاصيلها.. وهذه العملية تؤدي بالمحلل ،بشكل طبيعي، إلى تتبع نمو الظاهرة والحدث،والوقوف على تفرعاته، ومدى الصلات التي تربط هذه الظاهرة مع ما عداها.. لأنها تعين المحلل السياسي على تحديد ما يتطلبه الحل والعلاج.. ومن الأهمية بمكان أن تتماسك أجزاء التحليل.. فلا يتناقض مع بعضه ،أو يصل المحلل في تحليله إلى نتائج متضاربة مع بعضها البعض .. ومن الضروري التأكيد في هذا السياق على أن الأحداث السياسية، لا تخضع لنظام آلي ميكانيكي ،وإنما هي بالدرجة الأولى ،خاضعة لإرادة الفعل والاستجابة لدى الإنسان الفرد أو الجماعة .. وعلى ضوء هذا لابد للمحلل السياسي أن يجمع بين دراستين في تحليل الظاهرة السياسية ( الدراسة الاستاتيكية وهي دراسة تشريحية وظيفية تتعلق بالناحية الاستقرارية للأوضاع والنظم السياسية ،والدراسة الديناميكية وهي دراسة هذه الأوضاع في حالة حركتها وتفاعلها وترابطها وتطورها) (راجع كتاب قضايا علم السياسة العام ، الدكتور محمد فايز عبد اسعيد، ص34 ).. حتى يستطيع المحلل السياسي ،أن يعرف ثوابت الحدث ومتغيراته وتداعياته .. وبعد عملية التحليل والتركيب ،يأتي دور المقارنة بين الآراء وتمحيصها، حتى يتمكن المحلل من معرفة الرأي الأصوب ..وقد جاء في المأثور (اضربوا بعض الرأي ببعضه يتولد منه الصواب ) ..فإن المقارنة بين الآراء وتمحيصها ،تمكّن المحلل السياسي من التوصل إلى الرأي السديد، ويتعرف على الثغرات ونقاط الضعف لدى الآراء الأخرى ..لأن ( من استقبل وجوه الآراء عرف مواقع الخطأ ) و( من جهل وجوه الآراء أعيته الحيل) .. وجماع القول: فإن للتدريب والممارسة دورا كبيرا في بلورة الرؤى وصياغة المواقف لأن ( رأي الرجل على قدر تجربته ) والمحلل السياسي المتميز ،هو الذي لا يقف خارج الأحداث أو حركة الفعل السياسي، وإنما هو الذي يتابع حركة الأحداث من أجل بناء رؤية سياسية دقيقة وسليمة لواقعه الخاص والعام ..