بدخول الرئيس «عبدالفتاح السيسي» اليوم قصر القبة يعيد إلى الأذهان «تاريخية» هذا القصر.. تجسيدا لفترة حكم الرئيس جمال عبدالناصر منذ توليه مقاليد السلطة في 14 نوفمبر عام 1954م وحتى 28 سبتمبر عام 1970م، وإن كنت أعتقد جازما أن «السيسي» وإن حمل نفس الروح الوطنية.. إلا أنه يملك رؤية عصرية مختلفة لإدارة شؤون بلاده بواقعية أكبر لتمتعه بالمزايا التالية: (1) أن الشعب المصري هو الذي اختاره لقيادة بلاده. (2) أنه في التاسعة والخمسين من العمر.. وبالتالي فإنه يمتلك عوامل الحنكة والرؤية والثبات المطلوبة لإدارة شؤون دولة. (3) أنه يمتلك عنصر التنوع في الخبرات.. إلى جانب تأهيله العسكري الأساسي.. التي اكتسبها من خلال المواقع المتعددة التي شغلها.. أو من خلال انغماسه في تحمل أعباء المسؤولية السياسية للمشاركة في إدارة شؤون الدولة مدى عام كامل.. أو من خلال ثقافته المتنوعة (كما لاحظنا) من خلال تعاملات مع الأحداث. (4) أنه يتمتع بمكونات شخصية تتصف الهدوء والسكينة والتفكير العميق وعدم الانفعال أو الاستجابة لردود الأفعال وهي عوامل مهمة في شخصية أي قائد. (5) أنه يمتلك أيضا «كاريزما» رجل الدولة الأول بما توفر له من رؤية واضحة لدمج السلطات الثلاث، التشريعية والقضائية والتنفيذية بحكم تفاعله معها خلال الفترة الماضية وتعامله مع مختلف مؤسسات السلطة ومكوناتها الاقتصادية والأمنية والسياسية بصورة أكثر تحديدا.. ■ بين السيسي وعبدالناصر وهذا يعني.. أن اختيار قصر القبة لإدارة شؤون الرئاسة منه يحمل (فقط) دلالة «الرمزية» لسبب رئيسي ومهم هو أن الظروف الحالية غير الظروف السابقة.. وأن المرحلة الجديدة التي تدخلها البلاد هي مرحلة «عمل» و«إنتاج» و«إنجاز» وليست مرحلة، طرح ل«شعارات» وتكريس لتوجهات جديدة ذات أبعاد قومية.. صحيح أن «مصر العروبة» هدف مهم من أهداف المرحلة الحالية سواء على المستوى الداخلي أو الإقليمي أو على مستوى العمل الدولي.. لكن الأكثر صحة هو أن المعادلة مختلفة تماما في الوقت الراهن.. ومتداخلة كل التداخل.. ففي الوقت الذي سيكون على الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي أن يصرف (70%) من وقته وجهده وخططه وبرامجه على الداخل.. وبصورة أكثر تحديدا على تعزيز الوضع الأمني.. وإصلاح الحالة الاقتصادية.. فإنه مطالب أيضا بالعمل على استكمال الجزء الثالث من «خارطة المستقبل» بإجراء انتخابات ناجحة تأتي ببرلمان قوي ومتماسك ومكمل لجهود وأعمال الدولة ومتناغم مع السلطتين القضائية والتنفيذية ومتعاون إلى حد كبير مع سلطة الرئاسة.. وفي الوقت نفسه.. فإن الرئيس «السيسي» مطالب أيضا بأن يمد يده إلى إخوانه وأشقائه في الإقليم.. لضمان توفر الدعم السياسي والمالي الكافيين اللذين سيمكنانه من «التعمير» في الداخل وكذلك من الانفتاح على الخارج.. في ظل التأكيد على «عروبة مصر» وتعزيز الشراكة العربية الفاعلة في هذه المرحلة بالذات. ■ الأسماء تحدد ملامح المرحلة ولذلك فإن القرارات الأولى التي ستصدر عن الرئاسة اليوم وغدا وبعد غد.. ستبرز إلى حد كبير ملامح الغد المصري سواء من خلال الأسماء التي ستظهر في مقدمة الواجهة في الفريق الرئاسي.. أو في التشكيلة الوزارية المرتقبة في ضوء اختياره للشخصية المناسبة لترؤس حكومته الأولى.. هذه الأسماء ستقول لنا بكل تأكيد إلى أين تتجه مصر...؟ وما هي أولويات الدولة المصرية؟! وكذلك تحدد لنا خطوط الاتصال المفتوحة بين مؤسسات الدولة الجديدة بسلطاتها المختلفة.. كما ستكشف لنا قائمة الأسماء التي ستتصدر المشهد خلال الأيام القادمة.. الخطوط العريضة لأسس وملامح انتخاب مجلس نواب فاعل ومتفاعل ومقبول من قبل جميع مكونات المجتمع المصري المختلفة.. وهي ولا شك عملية صعبة ومعقدة.. لكن جميع المؤشرات تدل على أن الرئيس حريص على إنجاز هذا الاستحقاق بمعدل رضى عالٍ.. بحيث يأتي البرلمان مجسدا لإرادة المصريين وضامنا للحد المعقول من التجانس.. ومحققا للتكامل مع بقية مؤسسات الدولة.. تأمينا للاستقرار المطلوب.. وتركيزا للجهود على إنجاح خطط وبرامج الدولة نحو انطلاق الدورة الاقتصادية بقوة والاستفادة من الدعم العربي والدعم الدولي المتزايد على نحو كامل.. وبعيدا عن حالة التمزق والانقسام. ■ جيل جديد.. فكر جديد ذلك جانب.. أما الجانب الآخر الذي يسأل عنه الناس فهو: هل تتصدر المشهد وجوه قديمة.. تجمع بين الخبرة والمكانة السياسية والعلمية.. أو تأتي إلى الواجهة عناصر ووجوه جديدة.. تساهم في بلورة الرؤية.. «السيسية» نحو قيادة مصر نحو المستقبل؟! هذا السؤال.. يجد إجابات متفاوتة.. بعضها يميل إلى الطرح الأول.. وبعضها الآخر يتوقع الطرح الثاني.. ومع أنني أدرك أن السيسي.. يفكر بطريقة مختلفة عن هذا النوع من الاختيارات الحدية لأن معاييره «تُفصِّل الشخص على المهمة» وليس العكس.. إلا أنه سوف «يطعم» مواقع السلطة المختلفة سواء في فريقه الرئاسي أو في أول حكومة تضطلع بالمسؤولية التنفيذية.. بعناصر معينة وبأعداد محدودة للغاية من ذوي الخبرة والكفاءة.. وإن كان ذلك سيتم في مواقع صنع القرار.. وتقديم المشورة.. ودعم جهود الرئاسة.. وليس من موقع السلطة اليومية.. العملية.. والميدانية «التنفيذية». ■ ترتيب البيت من الداخل أولا وبمعنى آخر فإن التحليل العلمي لنمط تفكير السيسي يقول: إن الفترة الماضية قد أعطت «الرجل» إشارات واضحة لتوجيه بوصلة الحكم في مصر في المرحلة القادمة.. وفي مقدمة تلك الإشارات: حالة الانقسام.. في المجتمع المصري التي أعقبت حقبة حكم الإخوان وما رافقها من أخونة أجهزة الدولة.. وضرورة العمل على سد هذه الفجوة.. واستيعاب الجميع في كافة مرافق الدولة.. بعيدا عن التصنيف.. وقريبا من تحقيق هدفه في دمج كافة الفئات والقوى والأطراف على أساس الكفاءة والمواطنة والولاء للأرض وللدولة والمرحلة.. تشتيت عقول الشباب في الفترة الماضية وزعزعة ثقتهم في الدولة المصرية والتأثير على روحهم المعنوية.. وهو وضع لا يستهان به ولا يقلل من شأنه.. وسوف تعمل الدولة المصرية الجديدة على معالجته كإحدى أولوياتها البارزة وبصورة متدرجة.. وذلك بدمج الفئة العمرية ما بين (30 - 45) سنة في كافة مؤسسات الدولة.. في الوقت الذي ستهتم فيه بنظام التعليم والتأهيل والتدريب للفئة العمرية ما دون سن الثلاثين لبناء جيل قوي يسهم في مراحل لاحقة في تحمل أعباء المسؤولية بكافة مستوياتها بدلا من الانشغال بأمور أخرى.. أغرقتها المرحلة الماضية فيها بصورة متعمدة. وبمعنى أدق.. فإن الشباب في صدارة أولويات الرئيس السيسي.. واستيعابهم بصورة فاعلة ومتدرجة ومدروسة وسوف يوظف طاقات هذا الجيل في خدمة الوطن بصورة أفضل.. وتوجيهها وجهة إنتاجية.. وإيجابية.. وفعالة.. تفاني المرأة المصرية وحضورها القوي في صناعة مستقبل مصر الجديد كان ملفتا.. وسيقابل هذا الحضور في هذه المرحلة بما يستحقه من توسيع للأدوار التي تضطلع بها في كافة مفاصل الدولة وهيكلها التنظيمي على المستويين الرسمي والمؤسسي بدءا بفريق الرئاسة وانتهاء بمجلس النواب ومرورا بمجلس الوزراء.. والنقابات والمؤسسات الإعلامية ومؤسسات المجتمع المدني. ■ إصلاحات جذرية لمعوقات التقدم وهناك أشياء أخرى سوف تركز عليها إدارة الرئيس السيسي لإدارة شؤون البلاد في المرحلة القادمة ومنها: (1) تغيير ثقافة العمل في مؤسسات الدولة.. لإحداث نقلة نوعية تقضي على البيروقراطية والترهل وتعطيل الحياة المصرية والتأثير على الاستثمارات بشكل كبير. (2) إصدار أنظمة وقوانين جاذبة للسياحة والاستثمار وحركة المال من داخل مصر.. وإليها.. (3) معالجة قضايا الإدارة المحلية.. لرفع معدلات التنمية في الأحياء وفي المحافظات النائية.. تحسينا لمستوى الحياة المصرية.. وتوزيعا للفرص بينها بصورة ملموسة.. وذلك بتوجيه جزء كبير من المساعدات والدعوم المنتظرة من الأشقاء أو المنظمات الدولية ومنها صندوق النقد الدولي. (4) رفع مستوى كفاءة العمل السياسي والمدني بالتواصل بصورة أفضل مع الأحزاب والتكتلات السياسية ومؤسسات المجتمع المدني لضمان مشاركة أكثر فعالية في بناء الدولة المصرية.. والمساهمة في صنع المستقبل الأفضل لبلادهم بصورة بناءة بعيدا عن المعارضة لمجرد المعارضة.. أو للعمل لحساب مصالح ضيقة لا تعود بالنفع العام على البلاد. تلك هي أولويات الرئيس كما نتوقعها وكما نتوقع ترجمتها إلى قرارات مفصلية وهامة.. قد يكون من بينها مراجعة بعض الأنظمة والقرارات الصادرة إلى ما قبل تسلم السلطة اليوم.. وبما يحقق مستوى أعلى من الرضاء العام تكريسا لسياسة تجنيد كافة القوى لمصلحة مصر العليا.. وتحمل تبعات المرحلة والمساهمة بإيجابية في مواجهة الصعاب بمسؤولية كاملة.