من كل الشخصيات التي ظهرت في مسرحيات شيكسبير لم تشدني شخصية بقدر أوفيليا في تراجيديته هاملت. ورغم أن أوفيليا ليست شخصية محورية مثل ديسدمونة في عطيل، أو شخصية رنانة مثل كاثرين في كوميدية شكسبير «ترويض النمرة»، ولا هي محركة للأحداث مثل الليدي ماكبث، إلا أنها برأيي تمثل واحدة من أكثر شخصيات شيكسبير تعقيدا وثراء. فإذا كانت «الليدي ماكبث» ما زالت اليوم ترمز إلى المرأة الشريرة التي تحرض على العنف، فإن أوفيليا ظلت ترمز إلى الحزن والجنون والموت جزعا. وربما حينما نذكر اسم أوفيليا اليوم نسترجع واحدة من أشهر اللوحات من القرن التاسع عشر، وهي بريشة الفنان البريرافائيلي جون إيفريت ميليس، وهي تصور أوفيليا بثيابها الليلكية، وهي تطفو على المياه جميلة ومسالمة تغني قبل غرقها بلحظات. وهي ليست اللوحة الوحيدة الشهيرة التي تشخصها، فهناك الكثير، وبخاصة في نهايات القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين من الفنانين البريرافائليين، خصوصا ممن استهوتهم شخصية أوفيليا. يحضرني الآن لوحة أخرى أيضا للفنان الشهير جون وليام واترهاوس وهي تصورها والأزهار في حضنها وشعرها بقرب الغدير لحظات قبل غرقها. وفي لوحة أخرى رسمها آرثر هيو ترتدي ثوبا أبيض مصفرا، وهو ثوب جميل التصميم استلهمه العديد من مصممين الآرت نوفو. ورسمها أيضا الفنان والكاتب الشهير دانتي جابرييل روزيتي، وهو ليس دانتي صاحب الإنفرنو من القرن الرابع عشر، وإن كان يكتب الشعر مثله، فهذا هو مؤسس حركة البريرافائلية الفنية الإنجليزية التي تهدف بالعودة للخصائص الفنية المنتشرة قبل الفنان رافائيل الإيطالي في نهايات القرن الخامس عشر وبداية السادس عشر، وفي هذا عودة للتصوير الصادق والبسيط، ولكن الرمزي لمكونات اللوحة، وتبني الأدباء أسلوب المدرسة البريرافائيلية أيضا، ومن أهم روادها كريستينا روزيتي، وهي بالمناسبة أخت دانتي روزيتي المذكور. وبالعودة إلى أوفيليا، فهي ترمز للمرأة الإليزابيثية الرقيقة الجميلة المسالمة، ترى هاملت يهلوس مع نفسه تارة ومع شبح والده مرات أخرى، وهي تستمع إلى كلماته الشهيرة «أن أكون أو لا أكون تلك هي المشكلة»، وحسب نظريات فرويد ويونج، فعقدة أوديب هي المحرك للتراجيديا، فهاملت ما زال متعلقا بوالدته وكراهيته لعمه تحرك الأحداث. وأوفيليا تستمع لكلمات أبيها وأخيها اللذين يحذرانها من هاملت، فوضعه كملك الدنمارك القادم لن يعطيه حرية الارتباط بمن يريد بالضرورة ويمكن أن يجعل قرار ارتباطه بملكة المستقبل سياسيا. وحينما تفقد أوفيليا أباها بسبب هاملت تجن لفقده وتهيم على وجهها وهي تغني. ونهاية أوفيليا من أهم ما نتذكره عنها، وذلك لقصر حياتها ومساحة شخصيتها، فهي تتسلق شجرة الصفصاف لتجمع الأزهار فينكسر الغصن وتقع أوفيليا في الغدير وتغرق. نعتها والدة هاملت بأجمل سطور في تاريخ الدراما، ووصفت شكلها كعروس البحر في المياه وثيابها حولها لتساعدها على الطفو وهي تغني غير مدركة للخطر القادم، وسرعان ما تتشرب ملابسها المياه لتثقل وتشدها إلى تراب القاع. وحينما جاءت لحظة الوداع الأخير وقف هاملت على قبرها ليعلن وفاءه الأبدي لها، ونثرت الملكة الأزهار على تراب قبرها، ولم نسمع لها ذكرا بعد هذا المشهد. ولا أعرف لِم تذكرني صورة أوفيليا هذه وهي تطفو على المياه دائما بفرجينيا وولف يوم موتها، فوولف الكاتبة البريطانية ورائدة الحداثة الروائية النسائية أصابتها نوبات الاكتئاب التي احتدت إبان أحداث الحرب العالمية الثانية، وبعد تهدم منزلها في لندن وانعدام قدرتها على الكتابة أصبحت في حالة نفسية متردية، فخرجت ذات يوم من منزلها في نهاية مارس 1941 وملأت جيوب معطفها بالحجارة وألقت بنفسها في النهر المجاور لتغرق. تعجب من يعرفها وأكدوا بأنها قطعا لم تكن في كامل وعيها ولم يعثر أحد على جثتها لمدة تقارب الشهر. وأخيرا حينما وجدوها قام زوجها بدفن رفاتها في حديقة منزلهم في سوسكس الإنجليزية. وبذلك انتهت قصة واحدة من أشهر كاتبات الحداثة بالقرن العشرين تنازعتها أدوارها المتعددة والمتناقضة، مما يذكرنا بأوفيليا التي تنازعتها مشاعر متناقضة إلى أن ارتاحت للأبد.