نقطة ضعف بعض الأجهزة الحكومية هي الإدارة الوسطى، خاصة الإدارات المساعدة، وتحديدا إدارة الشؤون الإدارية والمالية. هذه المنطقة الإدارية تكون أحيانا محطة لكل الأمراض الإدارية والمهنية بالتقادم. هذه الإدارة بأقسامها وتفريعاتها التنظيمية من مشتريات ومحاسبة وشؤون موظفين هي من يملك مفاصل القرار الإداري والمالي والفني بدرجة تفوق 70% من حجم القرارات في الجهاز الحكومي. وإذا كانت الإدارة العليا في الجهاز هي التي تملك الرؤية والرغبة والإرادة الاستراتيجية وقرار الفعل، فإن الشؤون الإدارية والمالية هي التي تملك تعطيل أي إرادة وأي رؤية أو قرار وذلك عندما تتكسر على صخرة مصالحها أو نظرتها الضيقة تلك الرؤى والرغبات والقرارات الصادرة من الإدارة العليا. ومن هنا يمكن القول بأن من يقود الفعل في تلك الجهات هو القرار الإداري والمالي، الموجود لدى بعض المتنفذين في الشؤون الإدارية والمالية للجهاز المركزي وأذرعهم الممتدة عبر سنوات طويلة داخل نفس الجهاز وخارجه. في الشؤون الإدارية والمالية، يتم طبخ القرارات المالية والإدارية والفنية من تعميدات وترسية مناقصات وترقيات وتعيينات وانتدابات وتنقلات ومكافآت وتزكيات وترشيحات وتوصيات. هنا تسمح بنود الميزانية أو لا تسمح حسبما تقتضيه المصالح. هنا وفي دهاليز الشؤون الإدارية والمالية، تتخذ القرارات التي تؤثر في حياة ليس الجهاز والعاملين به فحسب، بل تؤثر فينا نحن بشكل يومي حتى وإن كنا لا نعمل في تلك الأجهزة. في رحم هذه الإدارة وبسببها تجدون طرقا نصف معبدة ومستشفيات نصف مجهزة ومعامل ومختبرات أغلبها لا تعمل. وبسبب هذه الإدارة تجدون موظفين غير أكفاء، بعضهم لا يعملون سوى بضع ساعات في الشهر. هؤلاء يتواجدون في البلدية ومكاتب العمل وفي الزراعة وفي الصحة والتربية والتجارة وفي كل مكان اسمه قطاع عام. فقط العاملون في الشؤون الإدارية والمالية يطلعون على الشاغر من الوظائف قبل أي أحد غيرهم ويملكون قرون استشعار لا يملكها أحد من القوم. العاملون في إدارة الشؤون الإدارية والمالية غالبا لا يتحدثون للإعلام ويرون فيه عدوا لمناطق نفوذهم ولا يثقون بأحد من خارج نطاقهم في نفس الإدارة. طبعا لا أعمم على العاملين في الشؤون الإدارية والمالية كلهم، وفيهم أناس لا تطالهم شبهات على الإطلاق، لكني هنا أتحدث عن أنظمة وعن ممارسة وتطبيق لتلك الأنظمة، ولا يهمني الأشخاص إن كانوا أمناء ومخلصين أو غير ذلك. والنظام الرقابي حين يطبق فهو يطبق على الأمين وغير الأمين. الرقابة هي علاج مباشر لتلك التجاوزات، لكن ما أنادي به هنا لحل مشكلة الفساد في مثل هذه الأجهزة ليس رقابة بمعنى الرقابة، وإنما عن طريق التدوير الوظيفي ليس داخل الوزارة ذاتها وإنما عبر كافة الأجهزة الحكومية، فلا يبقى موظف واحد في إدارات الشؤون الإدارية والمالية في الوزارة الواحدة أكثر من سنتين. لا يمكن أن نفهم تغيير الوزراء بعد كل أربع سنوات، فيما أباطرة الشؤون الإدارية والمالية في كل الأجهزة يضربون أطنابهم بما يتجاوز العشرين سنة وأكثر أو أقل قليلا. وهؤلاء أحق أن يتم تدويرهم بين الأجهزة الحكومية في نفس الشؤون الإدارية والمالية بما لا يتجاوز سنتين في كل جهاز، وذلك لتفويت الفرصة عليهم المتمثلة في بناء شللية مصلحية مع أناس من داخل الجهاز ومن خارجه. أرى تكليف جهاز إداري مثل الأمانة العامة للإصلاح الإداري، بتولي وضع دراسة لمجلس الوزراء تقضي بنقل العاملين في الشؤون الإدارية والمالية في وزارة الصحة إلى وزارة التربية والتعليم، ونظراؤهم في وزارة التجارة ينقلون إلى وزارة الخدمة المدنية، وهكذا دواليك، مع كل أو أغلب العاملين في الشؤون الإدارية والمالية لأي جهاز مركزي، خاصة إذا كان مقر العمل في مدينة واحدة.. هذا الإجراء سيضمن تقطيع أوصال شبكات المصالح لكل مجموعة من تلك المجموعات في تلك الإدارة ولا يسمح لها بأن تلتئم في المستقبل، لأن التدوير كل سنتين يضمن كذلك خلخلة النظام الإداري والمالي الذي ألفوه وأجادوا ثغراته وبالتالي استغلاله والتمصلح من ورائه. ويضمن كذلك أن نسبة من هؤلاء سيقدمون استقالاتهم أو تقاعدهم وبالتالي تهيئة أجهزة حكومية خالية من أعشاش الدبابير.. فلا يمكن ضرب بؤر الفساد، دون تفكيك شبكات المصالح التي إن وجدت، فهي لا يمكن أن تجد أفضل وآمن لها من إدارات الشؤون الإدارية والمالية في الجهاز الحكومي. * مستشار إعلامي