استيقظت صباحا على ضوء شمس «سدني» تتسلل من أطراف النافذة.. كانت الساعة قد تجاوزت التاسعة بقليل.. نهضت بنشاط وروح متمردة على بلادة أيام «الأحاد» انطلقت كالفرس الرشيق في سباق جمال الفرسان وجهت أدراجي نحو مقهى عربي يملكه مهاجر لبناني.. لا منجنيق معي ولا مدفع ولا بارود.. كنت أبحث عن سلام في يوم جديد.. استرخيت في مقعدي.. تناولت صحيفة محلية وأخذت أقلب صفحات الصحيفة بضجر.. تسجيلات قديمة نادرة لموسيقى شرقية تنتشر في أجواء المقهى.. مقطع من أجمل ما تغنت به أم كلثوم يتسرب إلى أذني من أغنية «فكروني» يا حياتي أنا كلي حيرة ونار وغيرة وشوق إليك نفسي أهرب من عذابي نفسي أرتاح بين ايديك.. تمتمت بصوت لا يسمعه غيري جرحوا القلب الي قرب يبقى زكرى.. سهروني أعيش لبكرة وبعد بكرة.. ياه منذ زمن طويل لم يهتز قلبي صباحا لأغنية هكذا.. لفت انتباهي في الطاولة المقابلة رجل أشقر كالتين المطبوخ كانت تطوق عنقه قلادة ذهبية خشنة عليها شعار «السعودية» كان جالسا منهمكا في إخراج «الآيباد» وتثبيت «الهدفون» بأذنيه وكأنني غير موجود.. ثم لما وجدني أتفحصه تبسم لي بلطف ورفع يديه بالتحية.. تقدمت منه تملكتني شحنة وجدانية طاغية لمعرفة علاقته بالقلادة التي تحيط بعنقه.. دائما أرتكب كوارث مشابهة في كل مكان أسافر إليه أحاول أن أكتشف كنوز الحياة اليومية المتناثرة حولي ففي كل مفردة عابرة وحدث مشروع مقال مؤجل.. عرفته بنفسي.. رحب بي ودعاني للجلوس معه.. اكتشفت أنه من الأستراليين الذين عملوا في «أرامكو» طلبت فنجان قهوة ساخنة وقطعة بسكويت.. كانت محطة الجزيرة الإنجليزية تبث نشرة الأخبار الدامية وبصوت عال كعادتها.. التفت إلي متهكما قائلا ألا زلتم تتقاتلون !! أخذت أفكر بمقصد كلامه.. هل هو جاد.. أم أنه يسخر منا !! حاولت أن أتجه بالحديث إلى منعطف مختلف.. سألته عن تجربته وانطباعه عن «السعودية» نظر إلي نظرة تشبه هبوب عاصفة صحراوية مباغتة.. قال لي عشت أجمل أيام حياتي في السعودية وأحببتها كبلد وأحببتكم كشعب لديه تراث وقيم ثمينة.. كنت أراقبكم تتمدنون كل يوم وتخاصمون التحضر كل ثانية.. كنت أحاول أن ألتقط البذور الضائعة في تراب أفكاره.. بقيت صامتا.. قال لي لديكم صحراء ساحرة كنت أسلك وحيدا «بالرنج روفر» دروبا ترابية متعرجة وأتوغل في الكثبان الرملية أتعلم من صحرائكم الجميلة.. وتعلمت أن كسر العود الأخضر في بلادكم إثم كبير وأن البدو ليسوا بالخشونة المتوارثة عنهم إذ أن هناك مناطق خضراء تنمو في الصدور المنهكة من الغبار والترحال والفجيعة وحكايات عشق منذ أن شهق عنترة لمرأى عبلة إلى آخر صوت مخزون في البراري.. ثم ضحك ضحكة يأس جافة وأكمل رغم ذلك اكتفيتم بما توفره الحظيرة من علف يومي دون أن ترفعوا أعناقكم إلى أبعد من السياج ويبدو أنكم ستدفعون من أعماركم مقابل ذلك فقد تمدنتم ولكنكم لم تتحضروا.. كان الكلام يرتعش كشرارة دافئة تحت جلدي.. سألته ماذا تقصد ؟ قال لي لقد حولتم بلادكم إلى «مول» لتسويق كل ما هو حديث ولكن للحضارة قوانينها.. لديكم طرقات فسيحة وتعتلون الأرصفة ولديكم إشارات مرور لا تقفون لها.. لديكم مدارس تدعو للفكر ولكن مناهجكم تقول عكس ذلك.. تبنون كباري للمشاة لكن لا تستخدمونها.. تضربون العملة كوسيلة متمدنة للشراء ولكنكم لا تعرفون قيمتها.. تقتنون أغلى الساعات الفاخرة ولا تلتزمون بالمواعيد.. البشر يشترون العربات ليصلوا إلى أهدافهم أنتم تشترونها لتقتربوا من الموت.. أنتم تعتقدون أن العشوائيات تقرح عمراني لا مناص من إزالته وتزيلونها بعنف بينما الشعوب المتحضرة تعتبرها نموذجا من نماذج الهندسة المعمارية والتنظيم المجتمعي المقبولة.. استمر يسرد ذكرياته بحيوية شاب في العشرين قال لي لقد عشت في قرية «أرامكو» قضيت فيها أربع سنوات متتالية كنت منبهرا بها تماما ثم أدركت بعد فترة أنني أعيش في مدينة خيالية مذهلة تشبه العاب الكمبيوتر الحديثة.. كل شيء متاح وممكن ونظيف وبراق، لكن ليس فيه لمسة إنسانية بشرية.. كنا كالدمى أو الربوت.. كنت أستمع إليه بشغف وفضول وأقاطعه أحيانا كالبغل العنيد.. كنت كالديك المنفوش عندما يدخل في صراع أجادله..أشحت إليه بالرفض.. قلت له لسنا كلنا كذلك.. البعض القليل منا يفعل ذلك.. استطرد كآلة «جرامفون» عتيقة وأخذ يضحك ضحكة خالصة من القلب ويدس الملعقة في كوب القهوة.. ما تفعله الآن يؤكد حديثي فأنتم اختصرتم حاسة الحواس كلها في فم تتحدثون أكثر مما تسمعون.. قلت له بنزق كالتلميذ الخائب الذي وجد نفسه فجأة في غرفة المدرسين، هذا هو الشرق يا سيدي كما رأيته فهل يستطيع العالم الأول بكل إمكانياته العقلية والمنهجية السيطرة على عقائده على سبيل المثال !! أجابني بقوة سفينة مبحرة وبصوت معدني لقد صرتم تحاطون برمال متحركة وبراكين قيد الانفجار ولا زلتم تعيشون بطمأنينة لا تختلف عن طمأنينة الجمل الذي يجد طعامه كل يوم ولا يفكر بالغد.. أنا محب لوطنك ولكم.. أقول لك كل ذلك علكم تستفيقون، وودعته وغصة في حلقي وأنا أشعر أنني خسرت المعركة حتى آخر قذيفة.. أتساءل وأنا أخطو إلى مهجعي.. هل الأسترالي كان فعلا على حق !!.