زيارة واحدة لجزيرة فرسان التابعة لمنطقة جازان، تجبرك على التفكير ألف مرة في العودة، بل وتشجع الآخرين للذهاب إليها، لسحر طبيعتها وجمال سواحلها وطيبة أهلها الذين يسعدون وهم يحتفون بضيوفهم ويقدمون لهم كل ما يحتاجونه من خدمات، تسبق الأهالي مواويل البحارة بكل ما فيها من آهات وأحزان، ورائحة البحر التي توحي بالاطمئنان، ودندنة الصيادين الشجية قبل مغيب الشمس. ضيوف فرسان يقاومون النعاس، ويهجرون غرف النوم في الفنادق والاستراحات، ويتسابقون لحجز مواقعهم في ردهات الأماكن السياحية، لأن الأهالي بطيبتهم وحسن تعاملهم وعلو كعب ثقافتهم استطاعوا من دون قصد أن يعيدوهم إلى الماضي الجميل، من خلال إمتاعهم بمواويل البحر وأغاني رياض السنباطي وأم كلثوم ومحمد عبدالوهاب وعبدالحليم حافظ وعوض الدوخي، فيشعرون وكأنهم جاؤوا إلى عالم آخر يقلب ذكرياتهم ويعالج أوجاعهم. العودة للماضي وأكد عدد من المسؤولين الذين حلوا ضيوفا على مهرجان الحريد بفرسان، بأنهم جاؤوا إلى عالم آخر فيه من المتعة والجمال ما لا يوجد في غيره من الأماكن، وقالوا إنهم يحرصون على التواجد في ردهات الفندق الفرساني الجميل للاستمتاع بالأجواء الدافئة، تشنف آذانهم أصوات محمد عبدالوهاب وأم كلثوم وفريد الأطرش وكثير من عمالقة الطرب الذين طالما رددوا أغانيهم في الصغر، وأشاروا إلى أنهم يفكرون في العودة للجزيرة ومعهم أسرهم للاستمتاع بسواحلها البكر، ومواقعها التاريخية، وطالبوا الجهات ذات العلاقة بأن تكون الالتفاتة لهذه الجزيرة في مستوى روعتها وجمالها، وبما يحقق لها نهضة تنموية في جميع المجالات وبما يتناسب مع مكانتها السياحية. العبارة أو الفلوكة ورغم كل هذه المغريات إلا أنه ليس أمام أهالي وزوار فرسان، إلا أن يختاروا بين الذهاب إلى الجزيرة والعودة عبر العبارات الضخمة والمجهزة بجميع وسائل الرفاهية والسلامة شريطة أن يرتهنوا لمواعيدها التي قد لا تتناسب مع ظروف البعض منهم، أو المغامرة باستخدام الفلوكة كوسيلة للنقل ليلا وهي مغامرة مرعبة، لأنها تفتقر لأبسط وسائل السلامة، وتبحر بركابها عبر رحلة قد تمتد إلى 70 دقيقة تصارع خلالها الأمواج بطريقة بدائية وبعيدا عن الأعين. تنتهي مواعيد تحرك العبارات المجهزة من وإلى فرسان قبل مغرب كل يوم، وليس أمام من يرغبون في العودة بعد هذا الموعد إلا استخدام «الفلوكة» التي لا تتسع لأكثر من عشرة أشخاص، وهي عبارة عن قوارب بدائية تفتقر لأبسط وسائل السلامة ولا ترتبط بأي جهة في حال طلب استغاثة، ويشرف على قيادتها عمالة آسيوية تجتهد في مواجهة الأمواج حسب الإمكانيات والخبرات المتراكمة من العمل وسط البحر. رحلة الرعب توجهنا من مقر السكن إلى ميناء فرسان للعودة إلى جازان عبر الفلوكة، وقيدت أسماؤنا في كشوفات حرس الحدود بطريقة منظمة وسلسة، ورغم المخاوف إلا أن هذه الإجراءات ولدت لدينا انطباعا بأننا سنحظى بوسيلة نقل مجهزة ومريحة، وتوجهنا إلى مرسى الفلوكات يرافقنا ثمانية أشخاص يعملون في بعض القطاعات جاؤوا للمشاركة في مهرجان الحريد، وكم كانت المفاجأة عندما شاهدنا الفلوكة التي ستبحر بنا قديمة ومهترئة وتفتقر لوسائل السلامة، فأخذتنا العزة بالإثم وسط نظرات فيها من الخوف الشيء الكثير رغم تطمينات قائد الفلوكة «آسيوي». صعدنا على ظهر الفلوكة التي كانت مغطاة من جميع جوانبها، والخوف يعتصر قلوبنا، وسلمنا أمرنا لله بعد أن قام مساعد القائد بتوزيعنا حسب الأوزان على الجانبين، وأملى علينا بعض التعليمات التي كان من بينها عدم الوقوف أثناء الإبحار، وأبحرت بنا صوب جازان وجميع الركاب يندبون حظهم ويتمنون لو لم يكتب لهم السفر عبر هذه الفلوكة، التي سرعان ما دخلت في صراع مع الأمواج العاتية. تعليمات القائد طلب بعض الركاب التوقف، فرفض قائد الفلوكة بحجة أن الأمواج ستقلبها، والآخرون أبدوا رغبتهم في العودة إلا أن القائد أيضا أبدى مخاوفه من حدوث ما لا يحمد عقباه، فسلمنا أمرنا لله وسط نظرات الرحمة والشفقة ومحاولة البعض جرنا إلى أحاديث قد تنسينا ما نعانيه في أماكن شبه مهجورة لا يوجد فيها غير أسماك القرش، وبعيدة عن أعين حراس الجهات المعنية، إلا أن أضواء مدينة جازان التي بدت لنا عن بعد خففت من مخاوفنا وأعادت لنا الأمل في الحياة حتى وصلنا إلى الميناء نتسابق على النزول من فلوكة الرعب.