في عدد أغسطس من عام 1917، نشرت مجلة ناشيونال جيوغرافيك تقريرا مصورا للدكتور صموئيل زويمر، الباحث الأمريكي في شؤون الأديان والذي لعب دورا كبيرا في حركة التبشير بالمسيحية، تحت عنوان (مكة الغامضة: مملكة جديدة في شبه الجزيرة العربية). في ذلك التقرير، تحدث الدكتور زويمر عن الثورة العربية الكبرى التي أعلنت انفصال الحجاز، والذي يشكل الآن الإقليم الغربي المحاذي للبحر الأحمر للمملكة العربية السعودية، عن الدولة التركية وإقامة أول دولة مستقلة للعرب تتمتع بالسيادة على أراضيها عاصمتها مكةالمكرمة، وأشار الدكتور زويمر في تقريره الذي سعى من خلاله إلى التعريف بالحجاز وموقعه الجغرافي وأهم مدنه إلى أن هذه المنطقة من العالم لا تزال مجهولة رغم أنها المنطقة التي تستقطب آلاف الحجاج المسلمين من أنحاء العالم كل عام. ولفتت الثورة العربية التي أعلنت استقلال الحجاز وعاصمته مكة عن الدولة العثمانية، نظر العالم إلى هذا الإقليم وحركت اهتمامه لمعرفة ما يدور فيه من أحداث، وقد جاء تقرير زويمر، الذي نشره بعد عام من قيام الثورة الكبرى، أنموذجا لهذا الاهتمام بالحجاز ومحاولة التعرف عليه، وهو ما مكن الحجاز من العودة مرة أخرى إلى التاريخ بعد أن ظل سنوات طويلة يعيش معزولا عن حركة التاريخ وخارج سياق الأحداث الكبرى. وإذا كانت الثورة الكبرى التي انطلقت في شهر يونيو من عام 1916 وتمكنت خلال ثلاث سنوات من طرد القوات التركية من الحجاز والشام، قد عرفت العالم بهذا الإقليم، فإن قيام الثورة نفسها كان نتيجة لتعرف هذا الإقليم على العالم، وقبل ذلك معرفته لنفسه باعتبار ما له من هوية مستقلة يمكن لها أن تشكل مفهوم أمة لها الحق في إقامة دولتها المستقلة تمتلك حق السيادة على أراضيها وحق تقرير مصيرها. الثورة العربية الكبرى التي كانت في مظهرها الخارجي ثورة سياسية عسكرية، كانت في حقيقة أمرها ثورة ثقافية أشعل وقودها المفكرون العرب القادمون من الشام واستقطبت في الوقت نفسه شباب مكة الذين وجدوا في الحراك الثقافي الذي سبق الثورة وتلاها، ما يمكن أن يعبر عن تطلعاتهم في قيام دولة تمثلهم تصبح مدينتهم مكة عاصمة لها وتسعى لتحقيق نهضة تخرج هذه المنطقة من حالة التخلف التي كانت تعاني منها في كافة جوانب الحياة. ووصف المفكر السعودي عبدالله عبدالجبار شوارع مكة آنذاك، مشيرا إلى ما كانت تشهده من مسيرات للشباب داعين إلى الحرية والاستقلال هاتفين بالثورة ضد الوجود التركي الذي أصبحوا يعتبرونه احتلالا للمنطقة، كما وصف عبدالجبار ميادين مكة وما كانت تشهده من خطب وقصائد شعر حماسية تلهب المشاعر وتحمس الجماهير للوقوف إلى جانب الثورة العربية، وهي خطب وقصائد كان يشارك بها المفكرون العرب القادمون إلى مكة وكذلك الشباب الحجازي من أهل مكة. نجحت الثورة العربية في تحقيق الاستقلال عن تركيا، غير أنها لم تنجح في تحقيق ما كان يحلم به المثقفون من قيام دولة حديثة تحقق لهم أحلامهم في ربط الحجاز بالحواضر العربية من حوله وتجاوز واقع التخلف الذي كانوا يعيشون فيه، ويصف الكاتب السعودي محمد سرور الصبان وهو ممن عاشوا أحلام الثورة وعاشوا انكسار الحلم فيها بقوله: كان الأمل عظيما أن تزدهر البلاد بشبيبة متعلمة كاملة العدة الأدبية تكون دعامة قوية وأساسا متينا لنهضة علمية كبرى تعيد إلى الحجاز وربوع الحجاز مجده المثالي وثروته الدينية والأدبية التي كانت له في السابق، ولكننا والأسف يملأ نفوسنا لم نلبث حتى رزئنا في هذه النهضة فأقصي البعض من القائمين بنشر العلم ووضع آخرون بين المطرقة والسندان. كان للخطاب الثقافي الذي تبنته الثورة العربية الكبرى وجهان، أو ظاهر وباطن، فهي في الوقت الذي تتبنى فيه بعدا قوميا عربيا كان من المتوقع أن يدعم علاقة الحجاز بالحواضر الثقافية العربية من حوله ويمهد لمزيد من علاقات التأثر والتأثير بينه وتلك الحواضر، شكلت الثورة في الجانب الآخر أو الوجه الباطن منها حركة انكفاء نحو الداخل وحصرت علاقتها في تلك الحواضر في رغبة سياسية تسعى نحو السيطرة عليها وتوسيع دائرة الحكم، والتي كانت تتطلع إلى أن ترث المكانة التي كانت لأسطنبول وأن تلعب الدور الذي لعبته دمشق وبغداد في عصر الخلافتين الأموية والعباسية، وهو الأمر الذي لم تتقبله دمشق التي كانت تنظر إلى الحجاز وأهله على أنهم بدو لا يملكون الإرث الحضاري والثقافي الذي تمتلكه دمشق، كما لم يكن بإمكان دمشق، حيث تبلور الوعي بمفهوم القومية العربية أن تتقبل التبعية للحجاز والتي لم يكن لها ما يبررها غير المكانة الدينية لمكة، وذلك ما أشارت إليه الصحف الفرنسية الصادرة آنذاك فيما نقلته عنها جريدة القبلة الصادرة في مكة حين تطرقت إلى المسألة السورية مشيرة إلى أنهم يزعمون أنهم يريدون إلحاق دمشق وحلب، إن لم نقل لبنان، باتحاد عربي يكون الحجاز رأسه فتقع دمشق، والحالة هذه، تحت سلطة مكة تقريبا. وتشير الصحافة إلى رفض السوريين لهذا الأمر فمسلمو سوريا أنفسهم واستقلالهم يعتبرون عرب الحجاز كشعب لا يزال على حالة الفطرة والبداوة، ولما كانوا، أي مسلمو سوريا، ديموقراطيين بعاطفتهم يرون أن أوتوقراطية توافقهم اليوم أقل مما كانت توافقهم بالأمس، والإشارة إلى الأمس إشارة إلى العهد الإسلامي الأول زمن الخلفاء الراشدين حين خضعت دمشق لسلطة الحجاز ممثلا في المدينةالمنورة عاصمة الخلافة آنذاك. كان الأدباء والمفكرون في الحجاز يريدون إلحاق مكةبدمشق حضاريا وثقافيا، وكان شريف مكة وقائد الثورة الكبرى فيها يريد دمشقبمكة سياسيا، وعندها اكتشف هؤلاء الأدباء والمفكرون أن الثورة التي وقفوا إلى جوارها وهتفوا بها لم تكن كما أرادوا لها أن تكون، اكتشفوا أنها انكفاء نحو الماضي وليست انطلاقا نحو المستقبل، وتأكد لهم ذلك حين انتهت الثورة إلى تبني الآليات التاريخية للسلطة في الاستبداد والقمع والانغلاق واعتمدت الأبوية البطريركية أو التفويض الإلهي كمصدر لسلطات الشريف حاكم مكة، بحيث يصبح هو وحده القادر على أن يحدد ما هو الأصلح للأمة وما هو في غير صالحها ويكون من حقه وحده أن يمنحها ما يشاء ويمنع عنها ما يشاء، فله الحق في منع صدور صحيفة أو طباعة كتاب كما له الحق في منع تعليم اللغة الإنجليزية أو استيراد السيارات على سبيل المثال. أدرك الشباب في مكة وقد اكتشفوا حقيقة الثورة التي ناصروها، أن ما يتطلعون إليه من نهضة لا يمكن له أن يتحقق من خلال ثورة تستبدل حاكما بحاكم وسلطة بسلطة ودولة قومية بدولة دينية أو دولة قومية بدولة قومية أخرى، وإنما من خلال حراك فكري ثقافي يتم من خلاله توسيع دائرة الوعي وتغيير وعي المجتمع وتعميق معرفته بنفسه وتثويره على ما هو متجذر فيه من فساد وجهل، ونزع قناعاته عما اعتاد أن يكون مقتنعا به، أدرك الشباب أن الثورة الحقيقية لا يمكن أن تتحقق في أمة لا يزال شعبها معزولا عمن حوله لا يعرف ما يجري في العالم، ومن ثم فهو لا يعرف ما يجري لديه، انطلاقا من أن الأمة التي لا تعرف أين بلغ العالم من التقدم لا يمكن لها أن تعرف أين موقعها هي من التخلف. أعادت الحركة الفكرية تصحيح مسارها، فلم تعد تهتف للثورة العربية الكبرى كما كانت تفعل، ولم تكن قادرة أن تهتف ضد الثورة، كذلك ولذلك اختارت أن تهتف للأمة حين تريد لهذا الشعب أن تتحرك كما تهتف ضد الشعب حين تشعر باستسلام هذا والشعب للضعف وقبوله بالتخلف ورضاه عن الوضع الذي هو فيه. يقول الكاتب السعودي عبدالوهاب آشي واصفا ما يجب أن تكون عليه كتابات الشباب لتحقيق ما يريدونه من تحريك وعي الأمة: الأمة التي استلذت الراحة واستطابت الهجوع وتطامنت للذل لا يوقظ شعورها إلا الصراخ الشديد في وجهها بالتقريع والتأنيب حتى تثوب إلى الحياة، لهذا كله أرى الشباب الحجازي المتأدب إذا كتب للأمة فإنما يكتب بأقلام من حديد وبمداد من الغاز الخانق على صفائح من نار. ولم يكن تجنب انتقاد الثورة الكبرى والاكتفاء بانتقاد الوضع الاجتماعي كفيلا بإتاحة الفرصة لهؤلاء الشباب من الكتاب كي يظفروا بحريتهم في الكتابة في ظل تخوف شريف مكة من انتشار الوعي الذي يمكن أن يؤدي إلى تقليص صلاحياته المطلقة، ولذلك منع إصدار الكتب وزج بكثير من المفكرين في السجون، مما أرغم المفكرين والكتاب إلى اعتماد المكاتبات الخاصة بينهم وعقد اجتماعات شبه سرية لتداول قضايا المجتمع والعمل على معالجة أوضاعه وانتظار ما يمكن أن ينتهي إليه أمر شريف مكة بعد أن بدأت خلافاته مع حلفائه الإنجليز والفرنسيين تضعف من سلطته في بلاد الشام والعراق، كما أن خلافاته مع جيرانه في شبه الجزيرة العربية وخاصة مع سلطان نجد الملك عبدالعزيز بدأت تهدد وجوده في مكة. وكان المفكرون يتحركون لنشر الوعي بسرية تامة بانتظار نهاية كانوا يرونها قريبة، ولذلك كانوا يهيئون أنفسهم لحقبة ما بعد حكم قائد الثورة العربية الكبرى شريف مكة وحاكمها، يقول محمد سرور الصبان مشيرا إلى المقاومة السرية التي واجه بها المفكرون قمع السلطة لهم: ولكن ذلك لم يفت في عضد المخلصين فتهيئوا لإعادة النهضة وتثبيت أركانها وكان نفر من الطلبة يقومون بتثقيفهم وتهذيبهم بقدر من الإمكان في جو من الصمت والانزواء، وعلى يد هؤلاء النفر وبإخلاصه ظهرت روح قوية متشبعة بحب العلم والأدب والتطلع بلهفة وحرارة إلى ساعة الخلاص من إدارة قاسية لا يروقها ولا يعجبها رؤوس مفكرة مستنيرة في الأمة. وجاءت ساعة الخلاص التي أشار إليها محمد سرور الصبان، عندما انتصرت جيوش سلطان نجد على جيوش الشريف وتمكن من إخراجه من مكة سنة 1924 ومن جدة بعد حصار سنة من ذلك التاريخ، ممهدا بذلك لتوحيد أجزاء كبيرة من الجزيرة العربية ومن ثم إعلان قيام المملكة العربية السعودية بعد ذلك، وقد تمثل شعور هؤلاء المفكرين والأدباء بساعة الخلاص في حركة النشر التي أعقبت سقوط حكم الشريف، فصدرت خلال سنة واحدة أعقبت سقوط حكم الشريف ثلاثة كتب تم تأليف بعضها خلال فترة حكم الشريف ولم يكن بالإمكان نشرها، وقد تضمن كتابان من هذه الكتب الثلاثة مجموعة من المقالات والقصائد لعدد من شعراء الحجاز وكتابه، وهذان الكتابان هما كتاب (المعرض) وكتاب (أدب الحجاز)، وقد قام بجمع مادة الكتابين محمد سرور الصبان الذي يعتبر من رواد الحركة الثقافية والفكرية في المملكة العربية السعودية، وقد أشار في مقدمة كتاب المعرض، إلى أن مقالاته التي جاءت إجابة على سؤال طرحه على أدباء عصره قد جمعت في عهد الشريف ولم يكن يستطع نشرها آنذاك. ويعد الكتاب الثالث (خواطر مصرحة) من أهم الكتب التي صدرت في تلك الفترة، ولا تزال الدراسات التي تتناول الحركة الفكرية والثقافية في المملكة العربية السعودية تعتبر ذلك الكتاب أهم كتاب صدر في السعودية، انطلاقا من الأثر الذي أحدثه في الحرجة الفكرية آنذاك، وما أثاره من ردود فعل مناصرة لما ذهب إليه المؤلف أو رفضة لذلك. وتعود أهمية كتاب (خواطر مصرحة) وهو من تأليف الكاتب والمفكر السعودي محمد حسن عواد، إلى اللغة الحادة والعنيفة التي استخدمها الكاتب في انتقاد الأوضاع الثقافية والاجتماعية والاقتصادية التي كان عليها المجتمع آنذاك، وإرجاعه أسباب ذلك التدهور لما كان عليه الأدباء ورجال الدين من استسلام للتقليد واكتفاء باسترجاع أمجاد الماضي وهروب من التجديد وتخوف من الاحتكاك بالعالم والتعرف عليه، كما تعود أهمية الكتاب إلى الدعوة الصريحة التي دعا من خلالها الكاتب إلى الاقتداء بالأمم المتقدمة والأخذ بمناهجها وأساليبها بصرف النظر عن العلاقات السياسية التي تربطنا بتلك الأمم وبصرف النظر كذلك عن ديانة تلك الأمم أو مذاهبها الفكرية. وقد اخترت أن أضع بين أيديكم واحدة من مقالات كتاب خواطر مصرحة تكشف ما كان يهدف إليه الكاتب من دعوة مجتمعه إلى الاقتداء بالأمم التي استطاعت أن تحقق تطورا اجتماعيا وتقدما اقتصاديا وانتصارا في الحروب التي خاضتها ضد أعدائها، وقد جاء المقال تحت عنوان (الأمة الفرنسية: درس وطني) تحدث فيه الكاتب عن الأمة الفرنسية باعتبارها أنموذجا لما أسماه «بطولة الأمم الناهضة» وقد استعرض في هذا المقال جوانب من تاريخ الأمة الفرنسية ابتداء من حرب الغاليين مع الرومان وانتهاء بتأسيس الجمهورية الفرنسية الثالثة، وقد ذكر في مقاله، أن الغاليين أي الفرنسيين القدامى قد اشتهروا بالبسالة والحركة والنشاط والعمل والذكاء والاجتهاد والحرية والاستقلال، كما وصف الأمة الفرنسية بأنها أمة حركة وإقدام، أمة فكر وعمل، أمة نشاط وحزم، أمة حرية واستقلال، كما وصف الثورة الفرنسية بأنها الثورة التي علمت الشعوب الأوروبية جمعاء كيف تنهض الأمم لحريتها واستقلالها على أسس سياسية خاصة لا تستطيع استخدامها إلا كل أمة متربية حية. وحين كان العواد يؤكد على اتصاف الفرنسيين بهذه الصفات، فإنما كان يريد من وراء ذلك أن يحدد القيم التي ينبغي توفرها للأمم كي يتحقق لها التقدم والتطور، والتي ينبغي على أمته أن تحرص عليها كي تتخلص من حالة التخلف التي كانت عليها، تلك القيم المتمثلة في الفكر والعمل والاجتهاد والحرص على الحرية والاستقلال. ولكي ننزل هذه المقالة منزلتها من التقدير، فإن علينا أن نتذكر أنها نشرت في كتاب صدر سنة 1926 أي خلال الفترة التي كانت بعض الشعوب العربية تخوض حروبا ضد الجيوش الفرنسية، خاصة في سورياولبنان اللتين كانتا تقاومان الوجود الفرنسي في المنطقة، وهذا يعني أن الكاتب تجاوز الظروف الطارئة والعداوات العابرة التي يمكن أن تشوب العلاقات بين الدول، فلم تؤثر هذه الظروف في تقديره لما كانت تمثله فرنسا من قيم العمل والفكر والحرية والاستقلال وما حققته الأمة الفرنسية من تطور وتقدم في مختلف الميادين، يجعل منها رغم الظروف العابرة التي كانت تشوب علاقتها ببعض البلدان العربية، الأنموذج الذي ينبغي اتباعه والاقتداء به. ويظهر حماس الكاتب للبطولة وحياده واضحا، في حديثه عن القائد الفرنسي شارل مارتال، حين استشهد بما وصفه به المؤرخون من أنه كان قائدا عظيما رغم أنه هو من قاد الحرب ضد العرب حينما أرادوا الزحف على فرنسا سنة 732م فانتصر عليهم انتصارا يعد من أعظم الحوادث التاريخية وأبقى الغرب للغربيين بدل أن يستولي عليه العرب. ولنا أن نثمن تلك المقالة إذا ما وضعناها في سياق مقالات أخرى تضمنها الكتاب، وحاول من خلالها الكاتب لفت نظر مجتمعه إلى الأمم المتقدمة في الشرق والغرب، مشيرا إلى اليابان مرة وتركيا مرة أخرى وفرنسا وبريطانيا مرة ثالثة، داعيا أمته إلى الاقتداء بهذه الدول والأخذ بالعوامل التي يمكن أن تحقق لها التطور الذي حققته هذه الدول في مسيرتها الحضارية على مختلف الأصعدة. وعلى الرغم من أننا لا نستطيع أن ندعي أن هذه الروح المتسامحة والفكر الداعي إلى التعرف على الشعوب المختلفة والبحث في أسباب رقيها وتطورها، يمثل تيارا وحيدا أو تيارا غالبا في الثقافة السعودية، خاصة إذا علمنا أن صاحب الكتاب واجه انتقادا شديدا من قبل التيار المحافظ الذي لا يزال يرفض مقولاته رغم مرور أكثر من 87 عاما على صدور الكتاب، إلا أن لنا أن ندعي إلى أن ذلك الكتاب وما تضمنه من مقولات داعية إلى التسامح حاثة للتعرف على الشعوب داعية إلى التعرف على أسباب نهضتها والاقتداء بها، يشكل تيارا عميقا وأساسيا في الثقافة الوطنية في المملكة العربية السعودية، وإذا كانت حركة الحداثة في الأدب التي برزت بوضوح خلال فترة الثمانينات من القرن الماضي في السعودية قد شكلت استعادة واضحة لهذه الروح، فإن سياسة الابتعاث على سبيل المثال تشكل تطبيقا لها على المستوى الرسمي، وحسبنا أن نشير إلى هناك ما يزيد على المائة والخمسين ألف مبتعث ومبتعثة سعوديين من قبل الدولة يتلقون تعليمهم في مختلف القارات على نفقة الدولة، إضافة إلى الذين يتلقون تعليمهم في الخارج على نفقتهم الخاصة، وفي ذلك دلالة واضحة على التقاء الإرادتين الرسمية والشعبية وإدراكهما لأهمية التعارف بين الشعوب والاستفادة من تجاربها وخبراتها لتحقيق التقدم والتطور الحضاري للإنسانية جمعاء، وتحقيق الحلم القديم الذي ناضل من أجله الشباب في مكة حين تفتحت أعينهم على العالم فأدركوا ما يتميز به من تقدم وعرفوا من خلال ذلك ما كانوا يعانون منه من تخلف عن ركب الحضارة.