بائن الطول، سمهري القوام، داكن البشرة، عظيم الشفتين، اقنى الأنف، حلو النظرة، أنيق يرتدي العباءة العربية والعقال، وهبه الله سماحة في النفس فكان من أكرم من عرفت من الرجال، وكان يسع الناس ببذله وكرمه كما يسعهم بأخلاقه وحلمه). لم أجد مدخلا أعبر به العتبات حتى أصل الى البداية في رصد سيرة الرجل الذي اضحى من كثر ما قيل عنه ابلغ من هذا الوصف الذي كتبه محمد علي مغربي عن محمد سرور الصبان في كتابه «أعلام الحجاز». ومحمد سرور الصبان الذي نحاول هنا الغور في سيرة ومسيرة حياته الزاخرة بكل مفارقات الحياة التي تقود جميعها الى المجد وتحقيق الريادة وصناعة الاولويات في النشر والأدب والإدارة والتجارة والعمل الخيري المؤسساتي قبل أن نسمع بالمجتمع المدني أو دور المثقفين في صناعة نهضة المجتمعات. ومن هناك .. من القنفذة التي تعبق بتاريخ طويل وواقع عنيد في ذلك الوقت بدأت الصفحة الاولى في حياة الصبان حيث ولد فيها كما تقول ادق الروايات في العام 1316 ه . وكانت القنفذة التي لم يظهر لها اسم في الكتابات التاريخية إلا مع بداية القرن التاسع الهجري بعد انقراض دولة بني حرام في وادي حلي. كانت في ذلك الوقت منطلقا لحملات الاتراك على عسير كما كانت سابقا منطلقا لحملات محمد علي باشا الحربية على عسير كما أنها كانت ميدانا لتطاحن القوى المتصارعة من العثمانيين والإيطاليين ولا تزال هناك شواهد من سفن الأتراك غارقة في مياه البحر الأحمر جنوبي القنفذة من جراء قصف البوارج الإيطالية، كما أنها كانت قاعدة لحملات العثمانيين وحلفائهم الأشراف على عسير وقد سميت سابقا ب(البندر) من قبل العثمانيين والتي تعني (السوق) باللغة التركية. في هذه الاجواء الساخنة والمتوترة ولد الرائد الصبان ولأن والده كان يكره كرجل مال واعمال يكره الحياة والعمل في الاجواء، انتزع نفسه وولده محمد في عمر ال 4 سنوات منها وذلك في حدود عام 1320 ه واتجه شمالا باتجاه مدينة جدة التي كانت في ذلك الوقت جوهرة الحجاز وحاضرته الاقتصادية والسياسية. حيث كل الوثائق وشهادات عائلته تؤكد ولادة محمد سرور الصبان في مدينة القنفذة وكما ذكر هو ذلك شخصياً في كتابه «أعلام الحجاز». خرج الرائد الصبان من القنفذة تاركا كل املاك اجداده واراضيهم التي لا يزال بعضها قائما حتى الآن، ويعلق الدكتور محمد سالم الصبان ابن شقيقة رمزنا الكبير على ذلك من واقع ايامنا هذه قائلا : لا زال لدى الاسرة بعض الممتلكات في القنفدة، الا ان كثيرا من الذكريات اندثرت لكون الاسرة قد انتقلت بكاملها الى مكةوجدة منذ أكثر من مائة عام. وفور وصول العائلة في جدة واستقرارها في أحد أحيائها ، أدخله والده وهو ابن الاربع سنوات في كتاب الشيخ صادق في حارة الشام وهو أحد كتاتيب في جدة كما يروي الاستاذ أحمد باديب ومنها كتاب الشيخ عبدالحميد عطية وكتاب الشيخ طه رمضان السمنهوري. ولكن أجواء جدة في ذلك الوقت لم تكن احسن حالا من اجواء القنفذة حيث كانت بؤرة صراعات بلغت اوجهها في صراع امير مكة المعين من قبل الباب العالي في الاستانة عاصمة السلطنة العثمانية والوالي التركي بسبب العائدات الجمركية والضرائب وغير ذلك مما جعل الاوضاع غير مستقرة في جدة كما يروي هذا المستشار هاني فيروزي في توثيقه لسيرة الرائد الصبان. وفي خضم هذه التحولات الكبرى والازمات الكبيرة ووقوع جدة في موقع يمكن لأي قوى اجنبية ان تداهمه بحرا في ذلك الوقت ولان والده كما قلنا سابقا يكره اجواء الاحتقان اتخذ قرار الهجرة الثاني في غضون اشهر معدودات. ويجمع ابناءه وزوجته ويودع جدة شادا الرحال نحو ام القرى مكةالمكرمة التي سيطيب له المقام فيها حتى يوافيه الاجل وهو يرى اولاده الثلاثة يتبرعمون بين حواريها واجوائها ودراسها التي كانت متقدمة على غيرها من المدارس في كافة ارجاء الجزيرة العربية آنذاك. وفي مكة استقرت عائلة الصبان في حارة سوق الليل وهي أقرب سوق للحرم المكي الشريف ، يقع في الجهة الشمالية الشرقية. وكان سوق الليل في صدر الإسلام يطلق على الشارع العام الذي أمام شعب الهواشم ، ويسمى أيضا شعب أبي يوسف ، ويعرف الآن بشعب علي ، وأما الآن قد أصبح اسم سوق الليل شاملا لسوق الليل القديم ولشعب أبي يوسف أيضا. وتقول بعض المصادر ان تسمية سوق الليل جاءت بسبب ان الباعة لا يمارسون تجارتهم فيه الا بعد العصر. وبعد استقرار العائلة في مستقرها بمكةالمكرمة أدخل الوالد ابنه الى المدرسة الخيرية «مدرسة ا لخياط» 1326 ه التي حسب رواية ثروت كتبي من انجازات الشيخ محمد حسين خياط ، وهو من أبناء مكةالمكرمة ومن خيرة علمائها وكان ذلك بدافع من غيرته على العلم وحبه لنشره بين أبناء المسلمين ، بالإضافة إلى قلة المدارس في ذلك الوقت ، وكانت فكرة تأسيس المدرسة تراود الشيخ منذ سنوات ، إلا أنه لم يتحصل على رخصة افتتاح مدرسة من قبل الحكومة التركية إلا بعد عدة محاولات، وبعد حصوله على الرخصة فتح المدرسة في داره ، وسماها «المدرسة الخيرية» ، وكان يساعده في إدارة المدرسة الشيخ حسين بن عبد الله باسلامه ، وتهدف المدرسة إلى نشر العلوم الدينية بين أبناء المسلمين وتربيتهم على تعاليم الإسلام وآدابه ، بالإضافة إلى الاهتمام بالعلوم الأخرى ، ولقد تطورت المدرسة في زمن وجيز ، وبلغ عدد طلابها في عام 1328ه أي بعد تأسيسها بسنتين نحو (300) طالب. وكانت تدرس من العلوم مثل ما تدرسه الصولتية ، ولكن بتوسع بالإضافة إلى بعض العلوم الأخرى ، كالتاريخ والجغرافيا وهي أول مدرسة بمكةالمكرمة اهتمت بهذه العلوم الاجتماعية. وفي عام 1333ه وجد في المدرسة مرحلة نهائية ، وكان عدد طلاب هذه المرحلة سبعة ، ويظهر أن مستوى هذه المرحلة في العلوم الدينية والعربية كان عاليا ، وذلك لأن هؤلاء الطلاب السبعة قد تقدموا لامتحان عقدته لجنة من أجل العلماء والمدرسين لكي يصبحوا ضمن عداد العلماء المرخص لهم بالتدريس في المسجد الحرام. كانت الدراسة في المدرسة الخيرية مجانا، وكان الشيخ رغم ضعف حاله المادية ، لا يطلب من أحد مساعدة مالية ، ولكن كان أهل الخير وولاة الأمر في مكةالمكرمة يقدمون له العون المادي والتشجيع . لقد تخرج من مدرسة الخياط نخبة كانت النواة التي ملأت الوظائف الحكومية وغيرها، واستمرت المدرسة في أداء رسالتها في العهد السعودي الزاهر ، حيث زارها الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود عام 1354ه وأطلق عليها «الرحمانية» نسبة إلى والده الإمام عبد الرحمن آل سعود. ويصف الرائد الصبان هذه التجربة في كتاب ادب الحجاز (وتعلمت القراء والكتابة والتجويد والحساب فقط لا غير في جدةومكة في المدارس التي كانت موجودة في ذلك الحين وتركتها للحياة العملية من غير ان اتمم دروسي) ويشرح ذلك اكثر بقوله (لم يكن للعلم دور يجد فيه الطالب المتعطش طلبه من العلم والأدب اللهم إلا المدارس الابتدائية التي ضيق عليها الخناق ولا تتعدى حيزا محدودا لها ، كما لا يوجد إلا كتاتيب بسيطة يفك فيها الطالب الحرف ثم يترك حبله على غاربه يشرق أو يغرب ، فيما لم يدرس في المسجد الحرام إلا طرفا من العلم يتلقاه أنماط من الأهلين والمجاورين على نية الفتوح والبركة لهم، أو على نية العيش لمعلميهم. على ذلك نشأ جيل الشبيبة وعلى مثل ذلك درج آباؤنا والأجداد منذ ذلك العهد الذي تهدم فيه بنيان العلم في هذا البلد المقدس واندكت فيه صروح الأدب والأدباء). ومن الذين درسوا في هذه المدرسة في ذلك الوقت كما يروي الاستاذ خالد الحسيني الذي كان مديرا لها في الفترة من 1417 الى 1425 في كتابه التوثيقي الاول عنها عدة شخصيات بارزة في التاريخ منهم ملك الأردن الاسبق طلال بن الحسين وملك العراق فيصل بن الحسين ، وعبدالله عريف، وحسن آل الشيخ، وأحمد عطار، اضافة الى الرائد الرمز محمد سرور الصبان. ويضيف الحسيني (عمل في هذه المدرسة منذ فترة تأسيسها العديد من العلماء الذين قاموا بالتدريس وإدارة المدرسة ومنهم: محمد حسين خياط، مصطفى يغمور، عبدالله الساسي، أحمد مخلص، محمد علي مالكي، عبدالله خوجة، أحمد السباعي، محمد طاهر الكردي، عبدالعزيز فطاني، فخري علي رضا) ولكن لا اجواء المدرسة وتحديات التجارة التي تمارسها اسرته كانت قادرة على انتزاع اهتمام الرائد الرمز مما يمور العالم من حوله وهو يعيش مخاضات كبرى توحي بعالم جديد يبدأ في التشكل وينبئ عن سلطنة السلطة العثمانية الى الابد وبدء انطلاق الشعور العروبي في مكان من العالم العربي في نزاع اخير للسلطة العثمانية في مواجهة الجيوش والاساطيل الغربية. ولهذا اثرت قراءات الرائد الرمز المتقدمة على تفكيره ورؤيته للاشياء وللعالم وللظروف ووسائل الترقي ،ويصف المستشار هاني فيروزي هذه الاجواء بقوله : كان الصبان في ذلك العهد قادرا على التفاعل مع الأحداث (طويل المحيطة به وكانت روح الثورة والتمرد ضد الدولة التركية قد أخذت تظهر بعد انحسار دور الخلافة العثمانية بسقوط السلطان عبدالحميد كما أشار إلى ذلك السلطان نفسه في مذكراته التي طبعت وترجمت، غير أنه ومع كل هذا الواقع المرير كانت هناك بعض الصحف التي شكلت مصدرا آخر للثقافة رغم فقرها وعدم قدرتها على تكوين وعي أو توجيه تفكير قرائها ومتابعي تلك الصحف ومن ضمنها صحيفة القبلة. ويضيف فيروزي، لقد عاصر الصبان السيد فؤاد باشا الخطيب الذي كان يشغل منصب وزير خارجية الشريف الحسين بن علي والذي كان يطلق عليه شاعر الثورة ويعد أستاذ الجيل الأدبي الجديد الذي نشأ في عهد الحسين فأخذ الأدباء الشباب يترسمون خطاه ويتأثرون به وبأفكاره الثورية ويرددون قصائده الشعرية، خاصة تلك التي تشيد بأمجاد الأمة العربية وتدعو إلى تحرير العرب واستقلالهم فأشلعت الحماس في نفوس الشباب ومن ضمنهم محمد سرور الصبان. وفي نفس الوقت أخذت صحف مصر والشام تمد الحجاز بكل ما فيها من مقالات استنهاضية إضافة إلى بعض الكتب الثقافية مثل مختارات الزهور لأنطوان الجميل ونظرات وعبرات للمنفلوطي ومختارات لجرجي زيدان، وبلاغة العرب في القرن العشرين للأستاذ محيي الدين رضا، وكتاب من آثار أدباء المهجر وكتاب أم القرى وطبائع الاستبداد للكواكبي. ولهذا لم يكن مستغربا ان يكون أول ناشر وطني للانتاج الحديث من الادب والفكر في الحجاز والمملكة هو الرائد الرمز محمد سرور صبان الذي أنشأ لمكتبة الحجازية في مكة عام 1925م.