تاريخ موجز للحضارة وتعبنا من المشي هائمين على وجوهنا في الغابات وعلى ضفاف الأنهار. ورحنا نستقر. اخترعنا القرى والحياة المشتركة، وحولنا قطعة العظم إلى إبرة، وأفعى البوا إلى حبل، وأطالت الأدوات أيدينا، وضاعفت ذراع الفأس من قوتها، وكذلك المعزقة والسكين. زرعنا الرز والشعير والقمح والذرة، وزربنا الأغنام والنعاج في زرائب، وتعلمنا حفظ الحبوب في مخازن، كيلا نموت جوعا في الأزمنة الصعبة. وفي الحقول كنا مزارعين نجل رموز الخصب، نساء تامات، ولكنهن استبدلن مع مرور الزمن برموز ذكور للحرب. وصرنا ننشد أناشيد مديح للملوك والقادة المحاربين وكبار الكهنة. واكتشفنا كلمتي لك ولي، وصار للأرض أصحاب، وصارت المرأة ملكية للرجل والأب مالكا للأبناء. بعيدة جدا صارت الأزمنة التي كنا نمضي فيها على غير هدى، بلا بيت ولا وجهة. نتائج الحضارة كانت مذهلة: حياتنا صارت أكثر أمانا ولكنها أقل حرية، وصرنا نعمل لساعات أطول. تأسيس الطبقات الاجتماعية. في الأزمنة الأولى، أزمنة الجوع، كانت المرأة الأولى تكشط الأرض حين نفذت إليها أشعة الشمس وتغلغلت فيها من وراء. وعلى الفور ولد مخلوق. لم ترق لعبة الشمس تلك لباتشاكاماك، فمزق الوليد. ومن الميت الصغير نبتت النباتات الأولى. الأسنان تحولت إلى بذور ذرة، والعظام أصبحت درنات يكة، واللحم صار بطاطا ولفتا ويقطينا... لم يتأخر غضب الشمس طويلا. صعقت أشعتها شواطئ البيرو وخلفتها جافة إلى أبد الآبدين. واكتمل الانتقام عندما كسرت الشمس ثلاثة بيوض فوق تلك الأراضي. من البيضة الذهبية، خرج السادة. ومن البيضة الفضية، خرجت سيدات السادة. ومن البيضة النحاسية، خرج من يشتغلون. عبيد وسادة الكاكاو ليس بحاجة إلى شمس، لأنه يحمل شمسا في داخله. ومن الشمس التي في داخله تولد المتعة والبهجة اللتين تمنحهما الشوكولاتة. الرموز يتمتعون باحتكار الإكسير الكثيف، هناك في أعاليهم، وكان محكوما علينا نحن البشر أن نجهله. كيتزالكواتل سرقة وأعطاه لشعب التولتيك. فبينما كان الرموز الآخرون نائمين، حمل هو بعض بذور الكاكاو وخبأها في لحيته، وعلى خيط عنكبوت طويل نزل إلى الأرض وأهدى البذور إلى مدينة تولا. استولى على هدية كيتزالكواتل الأمراء، والكهنة، والقادة العسكريون. فحلوقهم وحدها كانت جديرة بتلقيها. كان الرموز قد حرموا الشوكولاته على البشر الفانين، وسادة الأرض حرموها على الناس العاديين والخشنين. تأسيس تقسيم العمل يقال إن الملك مانو هو من منح سمعة رمزية للطبقات في الهند. ومنذ ذلك الحين شيد الهرم الاجتماعي الذي يتألف في الهند من أكثر من ثلاثة آلاف طابق. كل فرد يولد حيث ينبغي له أن يولد، كي يفعل ما ينبغي له أن يفعله. في مهدك يكمن قبرك. أصلك هو قدرك ومصيرك: حياتك هي المكافأة أو العقاب الذي تستحقه على حيواتك السابقة، والوراثة هي التي تحدد مكانتك ووظيفتك. وكان الملك مانو ينصح بتصويب سوء السلوك: إذا استمع شخص من طبقة دنيا إلى أشعار الكتب ، يسكب رصاص مذاب في أذنيه. وإذا رتل تلك الأشعار، يقطع لسانه. هذه التعاليم التربوية لم تعد تطبق، ولكن مازال من يخرج من مكانه، سواء في الحب أو العمل أو أي أمر آخر، يجازف بالتعرض لعقوبات عامة يمكن لها أن تقتله أو تخلفه أقرب إلى الموت منه إلى الحياة. من هم بلا طبقة، يشكلون واحدا من كل خمسة هنود، وهم أسفل من أشد السافلين، يسمونهم من لا يلمسون، لأنهم ينقلون العدوى: إنهم لا يمكنهم التكلم إلى الآخرين، ولا السير على دروبهم، ولا لمس أكوابهم أو أطباقهم. القانون يحميهم، والواقع ينبذهم. فالرجال منهم، يمكن لأي كان أن يهينهم. والنساء، يمكن لأي كان أن يعتدي عليهن، وفي هذه الحالة بالإمكان لمس من لا يلمسون. في أواخر العام 2004، عندما ضرب التسونامي شواطئ الهند، تولى من لا يلمسون مهمة جمع القمامة والجثث. مثلما هي العادة دائما. تأسيس الكتابة عندما لم يكن العراق قد صار العراق بعد، ولدت هناك أول الكلمات المكتوبة. إنها تبدو مثل آثار طيور. رسمتها أيدٍ بارعة، بقصبات مدببة، على الطين. النار التي شوت الطين، حفظتها.. النار التي تقتل وتنقذ، تقتل وتمنح الحياة: مثل الرموز، مثلنا. بفضل النار مازالت ألواح الطين تروي لنا، الآن، ما روي قبل آلاف السنين في تلك الأراضي التي بين نهرين. في أزمنتنا أطلق جورج دبليو بوش بصفاقة سعيدة، ربما لقناعته بأن الكتابة قد اخترعت في تكساس، حرب إبادة ضد العراق. فكان هناك آلاف وآلاف الضحايا، ولم يكن الضحايا أناسا من لحم وعظم فقط. بل جرى اغتيال الكثير من الذاكرة أيضا. الكثير من ألواح الطين، التاريخ الحي، سرقت أو دمرت في أعمال القصف. وكان أحد تلك الألواح يقول: نحن غبار وعدم.. كل ما نفعله ليس سوى قبض ريح.