في العصور الإغريقية في مرحلة ما قبل الميلاد تميزت ثقافة اليونان بظهور فلاسفة مشهورين بقي ثابتا ذكرهم على مر الدهر مثل سقراط وأفلاطون وأرسطو، وبقيت آثارهم الفكرية والعلمية منهجا علميا خالدا استعان به المسلمون في بناء حضارتهم وثقافتهم العلمية والفكرية بعد أن هذبوا فيه فأضافوا إليه ما خلت منه الثقافة الإغريقية من القيم الدينية والمنهج الشرعي. ضمن أولئك الفلاسفة، ظهرت جماعة فكرية عرف فكرها باسم (سفسطة)، وهي تتضمن المهارة في التلاعب بالألفاظ، والبراعة في الجدل من أجل قلب الحقائق فإذا بالحق يبدو باطلا والباطل يبدو حقا، ورغم أن السفسطائيين كانوا يحملون فكرا فلسفيا إلا أنهم اشتهروا أكثر ما اشتهروا بمغالطاتهم في عرض الحقائق من أجل بلوغ ما يرونه يخدم مصلحة يرجونها ويلبي حاجة يسعون إلى نيلها. وإن شبه شيء بفعل السفسطائيين فأقرب ما يشبه به أفعال الساسة الذين يزيد نجاحهم كلما زادت قدرتهم على تحريف وتغيير الصور الأصلية للحقائق بحيث تبدو متلائمة مع رغباتهم وتوجهاتهم وخدمة مصالحهم، فالسياسي البارع نادرا ما يسمي الأشياء بأسمائها، أو يفصح عن أهدافه الحقيقية التي يرنو إلى بلوغها، وإنما تجده دائما يختار لحقائقه التي يريد إخفاءها كسوة براقة جميلة مزخرفة بالبراءة والطهر، فيلبسها إياها حجبا لها عن العيون. إلا أن التلاعب بالحقائق ليس مهنة السياسي وحده، كما أنه ليس حكرا على السفسطائيين فقط، هو يكاد يكون وسيلة مشاعة لكل من أراد أن يجلب راحة لنفسه أو يمد قلبه بشيء من الرضا، كما يفعل أحيانا بعض الذين يفاجأون بوقوعهم في مواقف تجلب الضيق والاكتئاب فيعمدون إلى الكذب على أنفسهم وتزييف الواقع أمامها كي يبعثوا فيها الشعور بدفء الطمأنينة، كحال من يفجؤه منظر الشيب يغزو عارضيه معلنا طرده من نادي الشباب ونفيه إلى عالم الكهولة الخالي من كل جمال ومتعة، فيبادر إلى تهدئة نفسه وتسكين اضطرابها بتزييف الواقع أمامها فيأخذ في سرد مزايا الشيب وحسنات التقدم في السن مرددا أن: «الشيب زبدة مخضتها الأيام، وفضة سكبتها التجارب، في الشيب استحكام الوقار، وتناهي الجلال، وميسم التجربة، وشاهد الحنكة». بعد كل هذه المزايا التي تصحب الشيب هل بينكم من لا يود أن يغزو الشيب هامته إن لم يكن قد غزاها بالفعل؟ أما من أطرف ما قرأت من تلاعب بالحقائق وقلب لها قول علي بن الجهم عندما سجن وعير بسجنه، فهو يدري أنه ليس بإمكانه إخفاء خبر سجنه أو إنكاره دخول السجن، لذلك ليس له سوى أن يحول دخول السجن من حال تورث صاحبها النقصان والعيب إلى حال تورثه المجد والفخر: قالوا: احتبست فقلت: ليس بضائري، حبسي، وأي مهند لا يغمد!!