الحواس الخمس في الإنسان نعمة كبرى استطاع بواسطتها أن يقبض على خاصرة الحياة ويستمتع بها، وقد اصطفيت منها حاسة (اللمس) التي تدغدغ المشاعر أكثر من سواها. والحاسة الأثيرة بعدها عندي هي حاسة (الشم). وهم يؤكدون أن البصر أو السمع أو اللمس أو حتى الذوق، وهي جميعها حواس وثيقة الصلة بالشم، إلا أنها لن تستطيع أن تسترجع الذكريات بنفس الدقة التي يستعيدها الشم. وها هي (هلين كيلر) العبقرية العمياء الصماء البكماء تملي على سكرتيرها بواسطة (اللمس) وتقول: «إن حاسة الشم ساحر قوي ينقلنا عبر ألوف الأميال، وكل السنوات التي عشناها، فرائحة الخوخ مثلا تنقلني على جناحيها لمرح طفولتي عندما كنت ألهو في بستان الخوخ، فتملأ قلبي غبطة وسرورا. كما أن بعض الروائح تذكرني بأيام الحزن والشقاء»، هذا هو ما أكدته السيدة (كيلر). أما عن تجربتي الشخصية، فقد قدر لي في سنة ما أن أسكن في شقة بالقاهرة في عمارة كبيرة في أسفلها فرن ومخبز، وكلما دخلت أو خرجت كانت روائح الخبز تملأ (خياشمي)، ومن تلك السنوات الغابرة حتى اليوم، لا أشم رائحة خبزة حتى تنقلني رأسا تلك الرائحة لتلك الحقبة الممتلئة بمغامرات المراهقة التي لا ترحم. ومن أغرب الأمور أن التعبير عن تلك الحاسة محدود الكلمات جدا، بل إن الإنسان أحيانا يعجز عن التعبير خصوصا عندما تتداخل عليه الروائح. ولكنها تتفوق على جميع الحواس بأنها في كل الأماكن والأوقات والظروف لا تتوقف، بعكس النظر عندما لا يستطيع أن يمارس نشاطه بالظلام الدامس، وقس على ذلك السمع إذا كان الصمت مطبقا. وأكثر ما سعدت به عندما قمت قبل سنوات بزيارة لبلدة (غراس) في جنوبفرنسا، وهي بلدة قائمة على تقطير وصناعة العطور بمختلف الماركات، وشاهدت كيف تتم العمليات من (ألف إلى ياء)، أي من الزهور والورود والنباتات، إلى أن ينسكب العطر في القارورة ثم تتغلف وتصبح جاهزة للبيع، ليتضمخ بها جيد حسناء عاقدة العزم على قضاء سهرة مشبوهة. وقد خرجت من جولتي في تلك المعامل وقد تحولت ملابسي إلى (فاترينة) من كثرة ما تضوعت بالأطياب. بعكس ما حصل قبل عدة أيام عندما كنت متواعدا مع صديق لكي يأتيني لأذهب معه في مشوار، وقد تأخر علي قليلا، ولكنه عندما دخل أخذت (أشمشمه) كأي رجل تحرٍ، وقلت له رأسا: رائحتك رائحة طبيخ!!، فقال: صدقت، لأنني قبل أن أخرج مررت على زوجتي في المطبخ لأطبع على خدها قبلة الخروج، ووجدتها منهمكة تطبخ ملوخية، ويبدو أنها كثرت من (تقلية التوم). آسف لأنني أنهيت هذا المقال بهذه الكلمة -ولكن ما باليد أو (الخشم) حيله-.