كتبت لي أول مرة منذ سنوات طويلة.. كانت كلماتها مثل طعنة خنجر في الروح.. مزيج من الحسرة والألم والبؤس.. هكذا عرفتها.. فتاة منقوعة في أحزانها.. متدثرة بكآبتها.. سقطت في إدمان رفض الحياة؛ وأصبح كل شيء في وجهها مظلما.. وظلت تطلق العنان لكلماتها فيما يشبه الطيران الأسود.. لم تكن فراشة ولا حجلا أو زخة مطر مباغتة كانت فتاة من ذوي الاحتياجات الخاصة.. يتفجر الحنق والغضب في داخلها كنزيف مفاجئ.. كنت أقرأ كلماتها وأتساءل هل يستوعب ياربي ذلك القلب الأخضر لكل ذلك الألم؟ وتكاتبنا.. استمرت ثرثرتنا الالكترونية.. كنت أكتب لها دائما عن كل ما هو مفرح ومبهج في الحياة وكان الحديث بيننا يتدفق وكنت أنجح في أغلب الأوقات في ترك بقعة ضوء في نفسها.. كنت دائما أختم رسائلي لها ( لا مستقبل بلاعلم) وتحولت تدريجيا ومع الوقت إلى فتاة مسامها متفتحة للحياة.. لم يعد لديها الشعور أنها إنسانة عاثرة الحظ.. لم يعد كونها من ذوي الاحتياجات الخاصة أمرا يجرحها أو يؤذيها.. تولد لديها بصيص أمل خافت، وواصلت تعليمها العلمي الجامعي.. تحولت مع الأيام إلى فتاة تشعر بكينونتها وتولدت لديها طاقات جبارة وغنى نفسي هائل.. ورغم كل ذلك ظل السؤال ذاته يغص روحها كل يوم فتحس بمرارته.. ينسكب في حلقها وقلبها.. بعد أن أتخرج من ذاك الذي سيمنحني وظيفة؟ وأين؟.. سؤال مثل قنديل البحر سرعان مايذوب ويتلاشى على شاطئ الوقت تحت سياط شمس المشاغل اليومية.. في أحد الأيام فتحت بريدي الالكتروني، لأجد بشرى، وسؤالا.. كانت البشرى أنها تخرجت بتفوق، والسؤال.. من سيجد لي وظيفة.. وأين؟ وأجبتها.. مبروك.. أدعي الله أن أصل سالما إلى جدة.. حيث كنت حينها في أمريكا.. لدي وظيفة لك.. وعدت إلى جدة وتقابلنا لأول مرة.. عندما قابلتها.. أحسست أن في عينيها حزنا شفافا وفي حلقها طعم مرارة لاذعا وتجلى في كلامها إحساس عميق بفظاعة وظلم البشر لذوي الاحتياجات الخاصة.. وحصلت على الوظيفة.. انبهر بها رئيس القسم وفرح بقدومها وهو رجل عظيم من العلماء الذين لايبخلون بعلمهم على من يحتاجه يمنح بسخاء نهر.. هاجر إلى أمريكا وترك المكان كما علمت منها مؤخرا.. عادت لتقول لي.. عدت لأشكرك.. إنك لا تعلم مدى سعادتي بأنك ساعدتني لأحقق حلما مستحيلا.. ضحكت.. قلت لها وهل الحصول على وظيفة يعتبر حلما مستحيلا !!، قالت.. بالتأكيد.. ثم أسرعت تستدرك لولا مساعدتك لما تمكنت من تحقيق حلمي... قالت لي قبل أن تغادر المكتب.. الله يعطيك الصحة والعافية.. جعلتني تلك العبارة أحلق في فضاء بلا حدود.. أسبح للحظات في سماء وردية دافئة... ياه.. إيه.. إنها روعة أن يرحمنا الله بأن يعطينا الصحة والعافية.. وحدث انقلاب عجيب في أعماق تلك الفتاة.. تحولت إلى فوران من الضوء والطاقة.. تحولت من فتاة من سمنت إلى فتاة مشرعة للنور.. كنت أشعر أن السعادة اكتسحتها كما تكتسح الريح كومة من القش وتبعثرها.. وعملت معي وحتى تركت المكان.. كانت مثالا للنقاء والاستقامة والطهارة والتهذيب.. تتحدث بطريقة لبقة مع المرضى.. خاصة الأطفال.. كانت تغمر المرضى بدفء حقيقي كدثار من حنان.. تعمل بطاقة خيالية.. كانت تنظر بعطف ومحبة للمرضى.. وكانت تتمتع بحس إنساني نادر.. كنت دائما أشعر كل ما أقابلها بسعادة غامرة أنني دشنت ولادة إنسانة ناجحة وعملية ونقية ومتحضرة وذكية تملك روح النضال الحقيقي وتستحق وسام الانتماء لهذا العالم.. تذكرت تلك النبيلة حيث كتبت لي تطلب مني أن أساعدها للالتحاق بصرح طبي مرموق.. سألتها ولما الرحيل؟ أجابتني بغضب كاسح.. الوضع يادكتور بائس وغير إنساني.. ولا مجال للتطوير أو التعليم.. قلت لها قومي بعملك وتجاهلي الواقع حولك.. قالت لي.. من مارس السمو والرقي والامتلاء.. يستحيل عليه العيش في بئر مظلمة بلا قاع تهوي فيه الأنفس وتخرب فيه الأرواح.. خراب الأرواح لا يعادله أي خراب.. كنت أتأمل طويلا العبارة «خراب الأرواح لا يعادله أي خراب» .. وكأنني أقرأ قصيدة محمود درويش (وطني حبل غسيل) يالروعة المعنى ويالقسوة الواقع !!.