كان أبي يغني للحقل وكنتُ وإخوتي من خلفه نردد الغناء. لم يكن ينتبه لي لأنني كنت أوسطهم، (بين الأكبر والأصغر) حتى هبت ذات مساء عاصفة حمراء كانت عاتية مظلمة، لها رائحة تقتلع الروح. مع كل هذا الحزن الذي أحدثته، والشحوب الذي لونت به الأرض والسماء.. إلا أنها خطفتني بهدوء. كانت تبتسم لي وهي تحملني.. وتغني لي كي أتخلص من خوفي. وبعد انجلاء الهلع.. لم تجدني أمي وهي تحصي أبناءها فصرخت بقلبها ونادت أبي الذي ترك السنابل المحطمة وجاء يلهث. سأل أبي إخوتي فلم يجيبوا، وسألته أمي فاكتفى بالصمت. أبي الذي أحرقته الشمس، وأدمت قدميه أشواك العطش مكث طويلا وهو يسترجع من ذاكرته بعض صوري.. ويسأل جدتي عن مكان وقوفي، وطريقة أكلي، وملامح وجهي. وبقيت مع العاصفة أعبر بين الحين والحين من حقلنا الذي تحول لونه إلى الشحوب. وإخوتي ما زالوا يقفون في أماكنهم الأكبر فالغياب وأصغرنا ما زال مكاني خاليا.. وأمي تبحث عني في وجوه المارة أما أبي، فلقد أصبح أكثر اهتماما بي، لعله إن وجدني يوما يناديني باسمي.