تولى الإعلام المكتوب حتى عهد قريب أدوارا متشعبة في رصد وتحليل مجريات أحداث الساحة السعودية، إذ كان أحد العناصر المهمة في الإطار المرجعي للسعوديين، الذين كانوا يلجأون إليه عند تباين المواقف لمساعدتهم في اتخاذ القرار وتكوين وجهات النظر، ورغم بقاء التأثير بنسب متفاوتة إلا أنه وفي ظل طغيان لغة الصوت الصورة، عادت هذه الوسيلة القهقرى، حيث اكتسحت البرامج المرئية مجال المتابعة، لتكمل المسيرة وتهيمن على المشهد الإعلامي بالسعودية. وبنظرة فاحصة على عينات من تلك البرامج التي حركت الراكد وأحدثت جدلا في الساحة السعودية، يكاد يتفق المتابعون على أن برنامج «يا هلا بالعرفج» الذي يعرض مساء كل أربعاء على (روتانا خليجية)، استطاع أن يلفت جميع الأنظار انتقادا أو إشادة، وذلك لما يقدمه من وجبة إعلامية دسمة، لم تقتصر فقط على التشريح والتشليح، بل تعدت ذلك حيث جعلت المتابعين في نقاش دائم حول ما يطرحه من آراء، قد تبدو خارجة عن السائد المحلي، إذ استطاع البرنامج بفقراته المتنوعة و«فورماته» المثير، أن يقدم حوارا تحتدم فيه النقاشات، ويظهر للمشاهد صورة لما يدور في المشهد السعودي المدجج دوما بآرائه المختلفة. ولعل أبرز ما أفرزه البرنامج هو تغييره للصورة النمطية السائدة لبرامج «التوك شو»، والتي كانت أشبه بصورة رتيبة مكرورة، وحلقات جافة متخشبة، يفرض فيها المذيع سطوته على ضيوفه، يمسك بلجام المايك، يصول ويجول لساعات في حوار منقوص أشبه بحلبة مصارعة، يترصد كل فيها الطرف الآخر، فيما استطاع برنامج «يا هلا بالعرفج» أن يقدم أنموذجا أكاديميا لتعريف «التوك شو» من حيث العفوية في الحوار، والتناول السلس والحميم للمفردات بين طرفيه، دعمته كيمياء توافقية بين مقدم البرنامج المذيع المعروف علي العلياني، وضيفه الدائم د. أحمد العرفج أو عامل المعرفة كما يطلق على نفسه وهو توافق تعاكس في الفكرة والاتجاه والهدف، إذ تبدو أحاديثهما مثل ثنائي كرة القدم الشهير «محمد نور وأحمد بهجا»، وذلك في عملية (تمرير) الكرة أمام قدم المهاجم ليحرز الهدف، فيما لم تخل أحاديث هذا الثنائي من رسائل ضمنية لا يفهمها إلا «الفاهمون» بحسب تعبير علي العلياني. أما مستجدات الساحة السعودية بتنوعاتها وتشعباتها، فيناقشها البرنامج ضمن ست فقرات، شبهها المتابعون (بتحالف قوس قزح)، وهي عبارة تنسب للحزب الكيني الشهير الذي اعتمد في برنامجه السياسي على تحالفات مع عدة شرائح بما فيها الأطفال، وعلى هذا النسق جاءت فقرات «يا هلا بالعرفج» متنوعة لتخاطب جميع شرائح المجتمع السعودي، بداية (بأخبار الأسبوع) و(تصريح الأسبوع)، ومرورا (بعبارات متداولة) و(كاتب الأسبوع)، وانتهاء (بمزاين الإبل) و(مقاطع الأسبوع)، فيما تمكن البرنامج من خلال فقراته المتعددة أن يساهم في صك مصطلحات جديدة وغير معروفة في الإعلام السعودي كمصطلح (عامل المعرفة)، وهو مصطلح جاء استجابة حتمية لمصطلحات مثل اقتصاديات المعرفة ومدن المعرفة، ومجتمع المعرفة وأول من استخدمه هو بيتر دراكر الذي أدرك أن العالم يتجه الآن إلى صناع المعرفة والذين بدورهم يقومون بتحويل المعلومة من مادة لفظية «خام»، إلى سلعة يتم بيعها، مصطلح آخر أيضا تم صكه في مطبخ البرنامج ألا وهو (مزاين الإبل)، والذي قام على نظرية النص الغائب، والتي تعتمد على أخذ نص مشهور ومعروف ليستفاد من تركيبته وطريقة صياغته، بحيث يغير فيه كلمة أو كلمتين وذلك لإثارة القارئ، ولا سيما أن النص يشكل شيئا في وجدانه، فإذا قرأه بعد التعديل، طرب فرحا بهذا الرقي البلاغي الفاخر، بحسب تعبير عامل المعرفة. «أخبار الأسبوع» التي تعتبر أولى الفقرات من حيث التسلسل الزمني للبرنامج، اعتمدت على سرد أبرز الأخبار، ومن ثم التعليق عليها بكثير من الشغف، حيث يتنقل العرفج بين هذه المجريات بكل جرأة وجسارة، وبحس ساخر ومهنية عالية، مقدما تجربة طرحية ناجحة، فلم يكن محاميا رديئا، كحال بعض المثقفين الذين يقعون في هذا الفخ عند تسنمهم زمام الدفاع عن قضايا المواطن، فبرغم أن العرفج محسوب على شريحة النخب، إلا أنه استطاع بكل مهارة تجاوز أزمة الطرح، حيث بدا متباسطا أثناء حديثه عن الشأن العام وبعيدا عن المقاربة الباردة أو الإثارة المجانية الصفراء، فعندما ينتقد وزير المالية هو يقول ذلك بشكل مباشر، وعندما يرد على العريفي فيما يخص دعوته للجهاد يقول له اذهب وجاهد بنفسك، يسانده في كل هذا توافق واضحة من مذيع البرنامج علي العلياني. أما الفقرة التي حققت سبقا إعلاميا بامتياز، فهي فقرة «كاتب الأسبوع»، والتي تعتبر الأولى في العالم العربي من حيث نقد المقالة الصحفية، وتعتمد الفقرة على تحليل عينة من مقالات كتاب الرأي في الصحافة السعودية، عبر استخدم المنهج الوصفي وتحليل المحتوى، حيث يقوم العرفج بتشريح المقالات وتقييمها بغرض تقريبها إلى الجمهور المتلقي، وتعتبر الفقرة من الصعوبة بمكان، إذ ينبغي أن يتحلى الناقد بقدر عالٍ من المعرفة في مجالات المقالة، وأن يكون مطلعا ومتواصلا مع الأدبيات المعاصرة والممارسات الفنية. واستعرضت الفقرة خلال 25 حلقة، كتابا ذوي وزن ثقيل كإبراهيم البليهي، خالد الدخيل، وعبدالرحمن الراشد.. وغيرهم، وبشهادة الناقدين، فقد حظيت الفقرة بهامش عالٍ جدا في نقد الكتاب، وخلت من أي محاباة أو مجاملة، فلم يتوان العرفج مثلا عن وصف عبدالرحمن الراشد بأنه يكتب بتوجيه رسمي، أو بأن محمد آل الشيخ مدعوم من جهة رسمية، وهو ما جر على العرفج الكثير من الانتقادات والإشادات، حيث وصف الكاتب عبدالله فراج الشريف العرفج بمبتور الأصل، فيما أشاد جميل الذيابي بالعرفج ولسان حاله يقول «رحم الله امرأ أهدى إلي عيوبي». وتتابع فقرات البرنامج بسلاسة لتتوقف عند فقرة «تصريح الأسبوع»، والتي تستعرض تصريحات المسؤولين الشاذة، لتحليل ما لها وما عليها، كتصريح وزير المالية حول «سيارة الوزير»، حيث تحمل هذه الفقرة رسالة واضحة لكل مسؤول، مفادها أن أحاديثكم ينبغي أن لا تخضع للارتجال والعشوائية، وهي لا تحتمل بأي حال من الأحوال التجريب أو المحاولة، فانطباعات المواطنين ليس من السهل تغييرها، ومن المنطقي أن يكون هناك حد لقبول المضامين، ولا سيما التي تتنافر مع ما يختزنه الفرد من مكنون داخل عقله الواعي، كما أنكم أي المسؤولين في غنى عن إهدار أوقاتكم وجهود مؤسساتكم في محاولات لتبرير تصريحاتكم، وهو ما يدعوكم إلي صياغة تصريح ورسالة محكمة الجوانب. ومن الالتفاتات المميزة التي يشكر عليها البرنامج فقرة «عبارة الأسبوع»؟، والتي تحاول إعادة قراءة الكثير من العبارات الدارجة على اللسان السعودي، ولا سيما التي تعتبر من المسلمات، فعلى الرغم من أهمية هذه العبارات بوصفها تلخيصا لتجربة إنسانية إلا إنها لم تحظ بالعناية التي تستحقها، سواء في الطرح النظري أو الممارسة العملية؛ لذا قام البرنامج من خلال هذه الفقرة بإعادة النظر في الكثير من العبارات التي ظن أنها من الثوابت التي لا يمكن المساس بها، في حين أنه وبقليل من التمحيص نجد أنها لا تعدو كونها رواسب أفرزتها أحداث تاريخية وحراك اجتماعي، فعبارات مثل «لنا خصويتنا» أو «الدولة ما قصرت» وغيرها الكثير، تعرضت لعملية تشريح موضعي، بني على أسس جديدة.